الشرنقة 

حاضنة مستقبل لبنان 

آية فاطمة شمس الدين

هناك حلٌّ بسيطٌ لمشاكل لبنان العديدة: فلننتظر موت زعمائه الحاليين الذين شكّلتهم الحرب الأهلية. على الأقل، هذا ما تمليه الحكمة الشائعة بين الشباب. بالفعل، يصعُب تصوّر أيّ إصلاحٍ ذي بالٍ في ظلّ الفئات المتنازعة التي غدت اليوم تشلّ سياسة البلد وتنهش اقتصاده. لكنّ تسليط الأمل على وفاة الكبار في سبيل إحداث تغييرٍ استحقّ أجله منذ زمنٍ طويل، هو بحدّ ذاته أمرٌ ساذج. ينزع النظام في الواقع إلى الاستحواذ على الأجيال المستقبلية بطرقٍ ثلاثة: عن طريق بثّ مستوياتٍ من التهكّم واللامبالاة الباعثة على الشلل، وهذا الأمر بدوره يحمل الأشخاص على قبول محيطهم باستكانة؛ وعن طريق دفع من هم أكثر طموحاً على الانسحاب، والبحث عن إرضاء هذا الطموح في الخارج؛ أو عن طريق استمالة الكتلة البشرية التي بوسعها إحداث التغيير نحو الفئات الموجودة، والتي تهدّد بإبقاء مستقبل البلد رهينةً لماضيه.

قد يكون التسيّس أمراً طبيعياً، وربما حتى -نظرياً- مستحباً. تاريخياً، طوّرت الأحزاب أشكالاً جديدةً من التفكير والتنظيم، بغضّ النظر عمّا إذا كان قد نتج عن ذلك ما هو أفضل أو أسوأ. أما اليوم، فإنّ الفئات اللبنانية تسعى نحو المحافظة على وجودها فوق أيّ اعتبارٍ آخر، فتستثمر بشدّةٍ في السياسة التي تركّز على الهوية، بسبب افتقارها لرؤيةٍ تستشرف مستقبل الدولة. يُعتبَر التآكل الذي أصاب الدولة، في الواقع، مادة الترويج للجماعات السياسية التي تدخّلت لتقدّم نماذج بديلة تقسّم المجتمع إلى مساحات منفصلة ورؤى للعالم مختلفة. وهذه هي المرحلة التي تتقرب بها هذه الجماعات من مناصريها قتقدّم لها الحوافز التي يصعب تجاهلها. وقد صقل حزب الله، بفضل حجمه وتماسكه وموارده، هذا المنطق إلى حدّ الكمال. وفي سبيل فهم ظاهرة الاستقطاب الأوسع، لا بدّ من الاطّلاع على الديناميات التي تقوم عليها عملية الاستقطاب هذه التي تقوم بها الفصائل.

خطوات بطيئة

يبدأ الانضمام إلى حزب الله الذي يعرّف عن نفسه بأنه "مجتمع المقاومة" بالانغماس غير الواعي في بيئةٍ شمولية. المستشفيات التي يولد فيها الأطفال تعود للتنظيم، وطريق العودة إلى منازلهم تملؤها أعلام الحزب وصورٌ لأمينه العام حسن نصر الله، ولافتات تعظّم شعاراته، وصورٌ لشهدائه، وسوى ذلك من اللوازم الدينية التي تمثّل ولاء حزب الله للصيغة الإيرانية من الإسلاموية الشيعية وللإحياء الشعبي لذكرى الشخصيات المقدسة.

وإذ يكبر الطفل، فإنه سيسأل على الأرجح عن هذا العدد الذي لا يُحصى من صور الشباب باللباس العسكري التي تزيّن المساحات العامة، وسيأتيهم الجواب أنّ "هؤلاء هم شهداء كانوا يحمون بلادنا"، أو "ذاك ابن جيراننا". أمّا على سؤال "مِمَّ كانوا يحمون البلاد؟" فالجواب يتفاوت: من إسرائيل في الجنوب، أو من الدولة الإسلامية في الشرق، أو من الغرب، الذي يُنظر إليه على أنه هو الذي يحرك الخيوط. وتتسلل بطولات الأموات العظماء إلى حكايات ما قبل النوم فتكوّن سِمةً مركزيةً في نشأة أيّ طفل.

وتتضافر مجموعةٌ من العوامل لدفع الأطفال نحو أشكالٍ أكثر فعاليةً من الانتماء، فقد أدخل حزب الله بصمته في المنهاج التعليمي الأساسي في المدارس الموجودة في الأحياء التي يسيطر عليها، ففي ثانوية المصطفى القائمة في ضاحية بيروت الجنوبية، والمشهورة باسم "الضاحيه"، عُلّقت صور "الشهداء" في ملعب المدرسة، وعلى الجدران وفوق المصعد. أحيطَ الطلبة بصور الأشخاص الذين توفوا لتشجيعهم على التطلّع إليهم. ذكر أحد المقاتلين البالغ من العمر اثنين وعشرين عاماً مسترجعاً إعجابه بابن حسن نصرالله، محمد هادي الذي توفي وهو يحارب إسرائيل في عام 1997، وقال: "أردنا جميعاً أن تُعلَّق صورنا على الجدار يوماً ما مثله.".

وإلى جانب هذه الرموز يوجد أشخاصٌ ودودون للغاية يشكّلون مُثُلاً عُليا، إذ غالباً ما يشير مقاتلون بلغوا أشُدّهم إلى أحد الأساتذة قادهم إلى حزب الله، وهو شخصٌ يمكن التماهي معه، شخصية "رائعة" (cool) ومرِنة ومتفهمة. وقال أحد هؤلاء "أحد أساتذتنا في ثانوية المصطفى كان حاضراً دائماً للمساعدة مهما انجرف الطالب، وكان يهتم اهتماماً حقيقياً براحتنا". هذه المهمة غالباً ما يقوم بها شخصٌ يتمتع بالكاريزما ويدرّس مادة الدين، ويناقش مع الطلبة المسائل الوجودية بشأن الله ومعنى الحياة، ويتواصل معهم على مستويات شديدة الخصوصية، فيغدو بذلك الشخص الذي يلجأ إليه الشبان بشأن قراراتٍ مصيرية، كالانتساب إلى حزب الله بشكلٍ رسمي.

الأموات العظماء سمة مركزية في نشأة أي طفل

ثمة عاملٌ رئيسيٌ آخر يتمثّل في إدماج عقيدة الحزب في منهاج المدرسة، إذ يتعلم الطلبة، عبر مادة الدين ومواد أخرى تُدرّس إلى جانب الكتب الدراسية الرسمية، أنهم إن أرادوا أن يكونوا صالحين وأتقياء، فحزب الله هو السبيل الوحيد. ويُعتبر الاستشهاد الغاية المشرِّفة لفردٍ ينفّذ إرادة الله. وقال أحد المتخرّجين من إحدى المدارس التابعة لحزب الله "حينما تترعرع في بيئة كهذه، تمتزج السياسة بالدين على نحوٍ طبيعي."

هذه البيئة المدرسية تترافق، بالنسبة للعديدين، مع بيئة كشافة المهدي، وهي مجموعةٌ شبابية استقت تسميتها من شخصية محورية في العقيدة الشيعية. هذه المجموعة التي أنشئت في عام 1985 ووُضعت لها هيكلية شبيهة بأي تشكيلٍ شبابيٍ مماثل، حدّدت هدفها بأنه يتمثل في "تهيئة جيلٍ مسلمٍ يتبع خطّ ولاية الفقيه"، أي مفهوم القيادة الدينية الذي تقوم عليه الدولة الإيرانية. وبحسب التنظيم، تخرّج في عام 2008 ما يبلغ مجموعه 450,000 كشاف. ينتسب فعلياً إلى حزب الله – الذي يدير الكشافة بتمويلٍ إيراني- أعضاءٌ تتراوح أعمارهم بين أربع سنوات وسبع عشرة سنة، فينتج عن ذلك رابطٌ ذو طابعٍ أكثر رسميةً من الرابط الضعيف الذي ينشأ في المدرسة.

تجمع النشاطات الكشفية النشاطات الاعتيادية مثل رفع العلم اللبناني وعلم الحزب وتحيّتهما، والذهاب في رحلاتٍ مشياً في الطبيعة والقيام بخدمات مجتمعية، مترافقةً مع تدريبٍ موجهٍ أكثر على القتال الفعلي. وتشمل رحلات التخييم للفتية الذين تبلغ أعمارهم ستّ عشرة سنة تدريباتٍ على العناية بالسلاح واستخدامه، وُضعت في إطارٍ ترفيهي، وإنما تشكّل في الوقت نفسه تدريباً عسكرياً أساسياً. وقال أحد الكشافة السابقين "ننتسب لكي نصبح جنود المهدي". هذه الرحلة لا تنتهي في عمر الثمانية عشر، فقد وصف كشافٌ سابقٌ عملية الانتقال السلس قائلاً "يبقى معظم المتخرجين مع حزب الله، فمع حلول وقت مغادرتك، يكون هذا هو القرار الطبيعي الذي تتخذه".

يتعلم كشافة المهدي كذلك تعظيم الاستشهاد، حيث يزور أعضاء الكشافة، إناثاً وذكوراً، قبور شهداء مهمّين، لا سيما في يوم الشهيد الذي يقع في 11 تشرين الثاني، ويُعد مناسبةً غير رسمية. تزور الفتيات أمهات وأخوات من سقطوا فيقدّمن لهنّ باقات الزهور ويستمعن إلى قصص خسارتهن وصبرهن وفخرهن. وقد شرح أحد أعضاء حزب الله قائلاً إنّ "الشهادة هي شرف ليس للشهيد وحسب، وإنما لعائلته كذلك"، "امرأة الشهيد وأم الشهيد" هي ألقابٌ مشرّفة يُفضّل استخدامها على مناداة إحداهنّ باسمها."

لا يوجد مكان أفضل من هذا

عالم أحلام حزب الله

 قبل أن يقرر طفلٌ لبنانيٌ ما أن ينضمّ – أو يتجنب- حزباً، تكون بيئته، قبل ذلك بزمنٍ طويل، قد تشكّلت على يد ذلك الحزب. ما من شيءٍ يُفرض بالقوة، ولكنّ الأمور تجري على هذا المنوال. وفي حالة حزب الله، يتعلم الطفل، غالباً بشكلٍ لا إرادي، أنّ الشريحة الاجتماعية التي ينتمي إليها هي الوحيدة على حقّ والوحيدة العادلة، وينبغي أن يشعر لها بالامتنان. هذه الشريحة ينظّمها حزبٌ يقوم بالأعمال الخيرية، ويُطلَق على ممثليه المحليين ألقاباً عادية، مثل "الشباب"، ويقودها قائدٌ لا يهتزّ أمام تهديداتٍ، تقريباً، بلا حدود. وعند بلوغ سنّ المراهقة، يكون المرء قد بات ينتمي إلى مكانٍ وإلى مجموعة، ويكون قد قسم العالم إلى عالم مألوف وآخر غريب؛ إلى عالَمٍ محبوبٍ وآخر مكروه.

 عرّف حزب الله عن نفسه، منذ نشوئه في عام 1982، على المستويَين الإيجابي والسلبي في الوقت عينه، وعلى جميع المستويات، فقد نشأ في سياق الاحتلال الإسرائيلي وفي ظلّ الوجود المتعسف للفصائل الفلسطينية المسلحة التي كانت منتشرةً في لبنان، والاضطهاد الذي طال الطائفة الشيعية المحرومة، والإسلاموية المتزايدة التي حفزتها الثورة الإيرانية عام 1979. و سرعان ما شكّل حزب الله، مع الدعم الحيوي والتوجيه الذي تلقّاه من طهران، نموذجاً يمزج بين الدفاع عن الوطن وحماية مجتمعه وتمكينه. وتزامن صعوده، عبر السنوات، مع تآكل الدولة اللبنانية وفشلها، وفي هذا السياق قال أحد مقاتلي حزب الله:" في عام 1982، تمكّن الإسرائيليون من الوصول إلى بيروت في ستة أيام، فتخيلوا كيف كان ليكون أمن لبنان لو كان علينا أن نعتمد على الجيش."

يُبرِز ضعف الدولة قوة حزب الله، ما يعظّم بدوره عنصر الفخر. إنّ قدرة هذا التنظيم على ردّ الهجمات الإسرائيلية، ودعواه بالدفاع عن البلاد، ومقاومة الضغط الهائل للتخلي عن سلاحه عند انتهاء الحرب الأهلية في عام 1990، وفرض نفسه، منذ ذلك الحين، الجماعة المسلحة الأهم في لبنان، جميع هذه الأمور شكّلت عنصراً أساسياً في شعبيته لدى الشيعة. وتتمثل إحدى اللحظات التكوينية لدى شباب اليوم بالحرب بين حزب الله وإسرائيل في عام 2006. تكلم أحد المقاتلين عن الشعور بالقدرة المطلقة الذي يشاركه إياه العديد من أقاربه قائلاً:" نحن الوحيدون القادرون على حماية لبنان. قاتلتُ وأعلم أنه لولا حزب الله، لكان لبنان في خطر شديد".

يلمس مناصرو حزب الله قصور الدولة في العديد من الميادين الأخرى، فقد تدهورت البنية التحتية في لبنان منذ زمنٍ طويل، ما حفّز خصخصة الخدمات الأساسية وشجّع شبكات الزبائنية على التدخّل. وغدت الضاحية، التي تؤوي عدّة مئاتٍ من الآلاف من السكان والتي تبعد بضعة كيلومترات من مقرّ الحكومة، دولةً بحدّ ذاتها: فمصارفها ومدارسها ومحلات التبضّع المنزلي فيها وصيدلياتها ومطاعمها ومقاهيها إمّا يديرها حزب الله أو أنها ترتبط بالتنظيم بشكلٍ من الأشكال، وهذا الأمر يؤثّر كذلك على استمرارية الأعمال التجارية المستقلة. وفي هذه الأثناء، يمسك التنظيم بوظائف الأمن الأساسية بالرغم من الوجود الرسمي لجهاز الأمن الداخلي اللبناني.

يتعلم الطفل أنّ الشريحة الاجتماعية التي ينتمي إليها هي الوحيدة على حقّ والوحيدة العادلة

وفي هذا الجَيب شبه المستقل من المدينة، لا سبب لشعور المرء بأنه مسجون، وفي الواقع، العديد من السكان لا يشعرون بالحاجة إلى الذهاب إلى مكانٍ آخر. وقالت إحدى النساء- بعد فورة تبضُّعٍ في منطقة الحمرا، وهي منطقةٌ في جزءٍ آخر من المدينة- تسكن الضاحية وتعمل فيها وترسل أطفالها إلى مدرسةٍ فيها وتشتري بقالتها منها: "لم أخرج من الضاحية منذ خمسة عشر عاماً؛ كل شيءٍ يبدو غير مألوف." لم تُبدِ هذه المرأة استغرابها حول مدى تبدّل المدينة، وإنما حول "مدى اختلاف طريقة لباس الآخرين وهيئاتهم."

وإلى جانب الضاحية، يتمركز الحزب في مناطق أخرى في البقاع وجنوب لبنان، حيث يدير البلديات وسواها من المؤسسات المحلية، في الوقت الذي يوفر فيه خدماتٍ إضافية، مثل المساعدات المالية للتعليم والاستشفاء. وإن كان الانضمام إلى الحزب ليس أمراً مفروضاً، فإنّ الولاء ينشأ من هذا النوع من التدخّلات، صغيرةً وكبيرة. وكما قال مقاتلٌ من حزب الله:" إمّا أن تتبع القواعد التي وضعها حزب الله، أو تعيش وفق قواعد الدولة اللبنانية؛ عليك أن تختار أين يكون ولاؤك."

ليست محاربة العدو وإكمال دور الدولة سوى جزءٍ من الإطار المرجعي المعقّد الذي ينسجه التنظيم حول مناصريه. وهو يضع كذلك مجموعةً من القيم النابعة من أسسه الروحية. ففي داخل المجتمع، يسعى السلوك الفردي إلى محاكاة النموذج القيادي المثالي، الذي يُعتبر بدوره تجسيداً للمثال الأعلى الحديث للأصول، ولا سيما للإمام الحسين. تكلم أحد أعضاء حزب الله السابقين عن الصفوف التأهيلية بعد انضمامه إلى حزب الله قائلاً:" من أول ما تعلّمناه هو أنّ [مؤسس الجمهورية الإسلامية الإيرانية] الخميني، وخلفه [خامنئي] ونصرالله هم الأشخاص الثلاثة الذين يتبعون خطّ الحسين ويحافظون عليه". ويطرح مفهوم ولاية الفقيه نموذج قيادةٍ معصومةٍ  تتدرج من الأعلى أي من الأئمة إلى القائد الأعلى الإيراني إلى حزب الله.

إنّ الشعور بالأمن والتمكّن لدى قاعدة التنظيم يعزز الشعور لديه بالصلاح، وفي مركز شعور الثقة بالنفس هذا، يتربع نصر الله الذي يُدعى عادةً بالسيد- لقبٌ يشير إلى نسبه الهاشمي- وهو يمثّل لكثيرين من الشيعة اللبنانيين، وحتماً ليس لجميعهم، القائد الوحيد المحترَم والموثوق في بلدٍ عمّه الفساد وانتشر فيه العجز. وبذل أحد مقاتلي حزب الله جهده ليتمكن من التعبير عمّا يشعر به تجاهه قائلاً:" لا أجد الكلمات التي يمكن أن تعبّر عن عظمته. إنه يجسّد كلّ ما يمكن أن يكون عليه الرجل والقائد". إنّ الحماس الذي يعبّر به كثيرون ممّن نشأوا في الفقاعة لا يمكن تصديقه في غالب الأحيان. وادّعى أحد المقاتلين أنّ "العالم بأسره يهاب نصر الله ويحترمه"، وقال آخر بتأمّل "إن وُجد شيعيٌ في لبنان لا يحبّ السيد حسن نصر الله حباً يتخطى مجرد الإعجاب، فلا بدّ أنّ فيه خطأً ما".

سن الرشد

مع بلوغ الشباب سنّ الرشد، توفّر الجامعات أرضيةً خصبةً للتجنيد. وفي حين بإمكان الأهل أن ينتقوا مدرسة أبنائهم انتقاءً، وحتى أصدقاء الطفولة، فإنّ التعليم العالي يقدّم مشهداً ديمغرافياً وعقائدياً أكثر تنوعاً. إنّ جامعات النخب، تحديداً، قليلةٌ ومتركزةٌ في بيروت، ما يجبر الطلبة على الارتحال اليومي، أو الانتقال إلى مناطق غير مألوفة حيث لا مفرّ من اختبار التنوع. وبالرغم من ذلك، تميل هذه المؤسسات إلى جعل الولاءات القائمة أكثر شدة. وتعكس انتخابات مجالس الطلبة سياسة البلاد بحزبيتها وسردياتها وأحلافها وحزازياتها، والتي تؤدي في كثيرٍ من الأحيان إلى تصادماتٍ عنيفة.

وحزب الله، كغيره من الجماعات، يحوّل المحيط الجديد المذهل والمربك إلى نقطةٍ إيجابية. يمثل حزب الله في الجامعات ما يسمى بالتعبئة الطلابية التي يعيد من خلالها المندوبون خلق مجتمعٍ حفيّ، وحيث يمكن لمن تقاربت ذهنياتهم الاختلاط والتصرف بناءً لقواعدهم الخاصة، والحصول على خدماتٍ مختلفة. بعبارةٍ أخرى، يوسّع التنظيم منطقته بالنيابة، ويتتبع أعضاءه والمجنّدين المحتملين حتى حينما يخرجون من جيوبه الفعلية.

ومع بداية العام، يتواصل مندوبو التعبئة التربوية، من الذكور والإناث- وبالاستناد إلى مؤشراتٍ طائفية واردةٍ في ملفاتهم- مع كلّ من يبدو أنه قابلٌ للانضمام. وعلى الأرض، يوفر سلوك الطلبة العادي إشاراتٍ مساعِدة، وبهذا الشأن يشرح أحد المندوبين قائلاً: "بإمكانك أن تجد بسهولة من هم قابلون للانضمام وذلك بالاستناد، مثلاً، إلى لباسهم الأسود في عاشوراء [إحياءً لذكرى استشهاد الحسين]

التعبئة التربوية هي وسيلة، حائل بين بيئة الجامعة والطالب، وهي تخفف من الضغط الناتج من البدء بحياةٍ جديدةٍ في سياقٍ متطلبٍ وغير مريح، فتحيط الطالب بدائرةً من الأصدقاء يبعث وجودهم على الطمأنينة. كذلك، تضع التعبئة الفرد تحت مظلة تنظيم قوي، يستطيع أن يحسّن وضعه ويدفع عنه الضغوط ويفتح أمامه الأبواب وينقل مطالبه/ يسهّل معاملاته. وفي هذا الشأن قال أحد الطلبة: "ثمة منافع عملية جداً كذلك، فلديّ أصدقاء حصلوا على منحٍ دراسيةٍ كاملة من حزب الله – كم هم محظوظون. بالطبع، تتمّ مراقبة تصرفاتهم، إذ يُتوقع منهم أن يلتزموا بآدابٍ معيّنة وبلباسٍ معيّن."

وبالفعل، لا يسعى التنظيم ببساطةٍ إلى الحصول على دعم مناصريه، وإنما إلى إدخالهم في صفوفه. الأشخاص المتعاطفون فقط يجري التودد إليهم، فعلى سبيل المثال، قال أحد المندوبين: "أصادق أشخاصاً غير متدينين أو ممّن ليسوا على خطنا، فيرَون الرابط بين أعمالي الحسنة وحزب الله ويتأثرون بي". ويُشجَّع الفصل الصارم بين الرجال والنساء، اللاتي يسمَّين "أخوات"، في وقت يمكن أن يُقضى عليه بسهولةٍ، وبهذا الشأن قال مندوب آخر: "نشجع الأخوات على قضاء الوقت مع بعضهن فقط حينما يكنّ في الجامعة، فمعظمهن خرجن من الضاحية فقط للحصول على الشهادة، لذا يجب علينا أن نخلق لهن مساحة يكنّ فيها مرتاحات مدة دراستهن." يُعاد شكلٌ من أشكال العزل لإبعاد آثار الجامعة المفسِدة، وإعادة تعزيز نظام المبادئ الخاص بحزب الله وتعميق الروابط بين الطلبة والتنظيم. ومن ثم يدعو المندوبون الأشخاص الأكثر استعداداً للانضمام رسمياً إن لم يكن سبق لهم أن انضموا.

الوصول إلى القمة

التأهيل

غالباً ما يكون الانتساب رسمياً إلى حزب الله جزءاً من مسارٍ طبيعي: ينمو الفرد وينضج ضمن نظام يحوّل الانتساب الفعلي إلى محض شكليات. لذا، في أماكن مثل الضاحية، يطرق الأشخاص المكلّفون بتجنيد أعضاءٍ جُدد الأبواب بشكلٍ عشوائي تقريباً، ويسألون الشباب إن كانوا جاهزين لملء ورقة، دون أيّ ضغطٍ يُذكر، ففي الواقع، "الضغط" سبق أن بُثّ طوال عمر الفرد من هؤلاء، بشكلٍ غير محسوس وإنما بلا هوادة. ويصل المرء إلى اللحظة التي يكون عقله قد أصبح مهيّئاً بعد سنواتٍ من التعرض اللاإرادي لقصص التضحية بالنفس البطولية، ووصايا الشهداء التي تمّ تسجيلها مسبقاً والتي تُعرض على التلفاز، وسوى ذلك.

تحصل لحظة التحول غالبا في جو عاطفي جداً

يوفر إحياء ذكرى عاشوراء فرصةً لرفع مستوى هذا النوع من التأهيل، فإحياء ذكرى سقوط الإمام الحسين في معركة كربلاء في عام 680 ه. هي مناسبة روحية وثقافية وسياسية متكررة لدى الشيعة، تعبّر عن نفسها خلال عشرة أيام من حشد المشاعر. وفي هذه المناسبة يرتدي الناس ثياب الحداد، ويرفعون الأعلام السود، وينظّمون تمثيلياتٍ حول الحدث، ويقيمون محطاتٍ يُوزَّع عندها الطعام والماء، ويقيمون العزاء ويشاركون في مسيراتٍ وأشكالٍ أخرى من أشكال الترابط الجماعي.

يستثمر المسؤولون عن التجنيد في حزب الله هذه البيئة فيسألون الشباب عند الحواجز العديدة التي تُقام لأمن مجالس العزاء: "أترغب بالدخول إلى هذه الخيمة لملء استمارة للانضمام إلى حزب الله؟" وكما هي الحال دائماً، يكون القرار طوعياً، فالتنظيم حريص على عدم خلق شعور بالإكراه يمكن أن يكون له أثرٌ سلبيٌ معاكس.

مجالس العزاء المسائية التي تُتلى فيها قصة استشهاد الحسين هي أحداثٌ حية تُقام عملياً في كل شارع. وتجتذب هذه المجالس الشباب بشكلٍ خاص، حتى الأقل تديُّناً من بينهم. هذا الرثاء الجماعي الذي يجري في المجالس يشكّل ذروة الإحساس بالانتماء إلى روح المجتمع المتمثلة بالاستشهاد والصمود. ينتشر الأشخاص الموكلون بالتجنيد للتكلم مع المشاركين خلال المجالس أو في أثناء مغادرتهم، وقد يسألون واحدهم إن كان يودّ الانتساب فتكون لديه الفرصة ليكون بطلاً، وهو سؤال تُستغلّ فيه قوة كربلاء في استثارة العواطف وتُربَط بالنضال المعاصر للتنظيم. ويمكن أن تكون الأسئلة أكثر إلحاحاً بقليل، كالسؤال التالي على سبيل المثال: "إذاً أنت لم تأتِ اليوم لتنضمّ إلينا؟" ولا تكمن قوة حزب الله في قدرته على الإقناع بمقدار ما تكمن في بيئته المحيطة.

الدجاجة والبيضة

يشكّل دخول الفرد رسمياً إلى حزب الله شكلاً من أشكال التطور غير الملحوظ أكثر مما يشكّل نقطة نهاية واضحة. ويختار المرء طوعاً أن ينخرط في "مجتمع المقاومة" الذي يطرح نفسه بطريقةٍ شمولية: ثمة مكان ووظيفة للجميع. يشكّل حمل السلاح أحد الخيارات، ولكن ثمة طرق عديدة أخرى ليكون المرء جزءاً من الكل، تبدأ من العمل في المنظمات التابعة لحزب الله (مثل مؤسسة جهاد البناء للإعمار) وتصل إلى دعم مهمة التنظيم دعماً غير مباشر. وذكرت إحدى المنتسبات إلى حزب الله أنّ "السيد قال في خطبةٍ ألقاها بعد حرب عام 2006 أننا انتصرنا ليس لأننا دحرنا جيش إسرائيل العظيم وحسب، وإنما لأننا لم نترك منازلنا. الصمود هو السبب في أنّ مجتمعنا لن يموت أبداً." وشرحت إحدى الأخوات قائلةً أنّ حزب الله يعتمد على كلّ عضو من أعضائه "كممثل في مسرحية ليست فيها أدوار ثانوية."

ولإيصال هذا الحسّ بالانتماء إلى التنظيم، يعتمد حزب الله على محاكاةٍ ضمنية، وشبه مسرحية لواقعة كربلاء. وكما يُشجَّع الرجال على أن يكونوا حسينيين في مواجهتهم الظلم حتى ولو كلّفهم ذلك أرواحهم، تُحثّ النساء على أن يكنّ زينبيات، في إشارة إلى أخت الحسين. زينب لا تقاتل، ولكنها تمكّن النضال، وتصبر على خسارتها، وتحيا لتخبر القصة التي تُكرر عبر القرون كمصدرٍ أساسيٍ للتماسك الاجتماعي. ويُتوقع من الأمهات أن يربّين أبناءهن على التضحية بالذات، وأن يهيّئن بناتهن على تقبّل الألم وتحمّله.

قالت إحدى الأخوات: "حينما تدرك البديهي، أي مدى أهمية الأم في تربية الطفل، وحينما تضع الأم في مركز مجتمعها، عندها تكون قد ربحت، فأنت تربّي الشخص الذي يربّي الطفل." يرتدي الصبية، منذ نعومة أظافرهم، السواد في عاشوراء، ويهتفون الشعارات التي يكرّسون فيها أنفسهم للحسين. ويكبرون- في مجتمعٍ لبناني يقدّس تقريباً صورة الأم- وهم يتطلّعون ليصبحوا فخر أمهاتهم. ويسعى الرجال الذي ينضمّون إلى حزب الله إلى الزواج من امرأة تشاركهم هذه النظرة، وهكذا تستمر الحلقة.

"لا يوجد حدُّ لمقدار ما يمكن أن تكون الحياة مشرّبةً "بمجتمع المقاومة

لا يوجد حدُّ، عملياً، لمقدار ما يمكن أن تكون الحياة مشرّبةً "بمجتمع المقاومة"، وقد يشمل ذلك حتى الوقت الحر الذي تملؤه وسائل الإعلام الترفيهي الذي يديره حزب الله، ونوادي كرة القدم، وصفوف الطهي ومراكز الترفيه. هذه الصورة تكملها السياحة الدينية فائقة التنظيم في لبنان والمنطقة والتي يشارك فيها الشباب بكثافة. يعزز التخالط الاجتماعي الذي يتلو ذلك الروابط بين أشخاصٍ متشابهين في التفكير، ويستبعد أيّ حاجة أو وقت أو مساحة من شأنه أن يؤدي إلى التحرر من العلبة. وأشارت إحدى الأخوات قائلة: "بحضوري صفوف الطهي تعرّفت على أمهات الشهداء واستمعت إلى قصصهم وأُعجِبت بعزيمتهم، وترك ذلك انطباعاً قوياً في داخلي." لا يختار الجميع اتّباع هذه الطريق، ولكنّ الأعضاء النشطين يُنصحون بتشكيل دوائر من الأصدقاء مغلقة يكون فيها كل فردٍ محاطاً بأقرانٍ مؤمنين.

إنّ الانضمام إلى التنظيم لا يغيّر وحسب الطريقة التي يفكّر بها المرء، وإنّما طريقة تصرفّه وكلامه وحتى ملبسه. ويُتوقع من الأعضاء كاملي العضوية أن يصبح تصرّفهم أكثر لياقة، وأن يلبسوا ألواناً قاتمة بشكل عام. يُعرِض الرجال عن ربطات العنق ويهذّبون لحاهم بشكلٍ ملحوظ، وتلبس النساء إمّا العباءة السوداء أو رداءاً طويلاً مع غطاء للرأس كبير يغطي الظهر ومنطقة الصدر حتى منتصفها. ويمكن تمييزهم بسهولة عن الباقين، ما يعزز لديهم الشعور أنهم مختلفون. عنصر التميّز المطلوب هذا يجعل من الانتقال إلى حزب الله مسألة ذات قيمة اجتماعية وأمراً محسوساً. بعبارةٍ أبسط، يكون الفرد "مهماً" أكثر حينما يكون مرتبطاً بالتنظيم.

كذلك، يمنح العمل في مؤسسة تابعة لحزب الله المرء مكانةً اجتماعية، إضافةً إلى الامتيازات العملية، مثل راتب ثابت أوعلاقات أقوى أو تأمين صحي أفضل. "مجتمع المقاومة" هو مجتمع نابض بالحياة، ويفتح الآفاق للارتقاء الاجتماعي وتحقيق الذات. ويلي العضوية في التنظيم تسلسل هرمي كامل من المناصب التي يمكن تسلّقها، بدءاً من الأعضاء العاديين وصولاً إلى القيادات الرفيعة وكل ما يقع بينهما. ويخلق ذلك شكلاً بديلاً من أشكال الارتقاء في مجتمع لبناني أوسع لا يزال شديد التصلّب.

من السهل أن يثير هذا الانتظام الذي لا يتزعزع في عمل هذه الآلية الاجتماعية – السياسية إحساساً برُهاب الاحتجاز، وبقلّة الحيلة وبالاضطهاد. قد يكون هذا هو السبب الذي يجعل من الجانب الطوعي والحاذق لعملية الاستقطاب- التي لا تعني الجميع بطبيعتها- أمراً مهماً جداً لنجاحها. تكاليف الدخول إلى التنظيم قليلة جداً وعائدات ذلك هائلة، أمّا رسوم الخروج منه فهي بعدُ أكبر. يمكن لأيٍ كان أن يجتنب التنظيم أو أن يغادره بعد انضمامه إليه، ولكنّ ذلك يعني أنّ عليه أن يرفض الكثير في محيطه الاجتماعي، ما يمكن أن يؤدي إلى خسارة الخدمات المهمة وذلك الحسّ بالفخر وبامتلاك هدف ينبع من قوة حزب الله ومن رؤيته للعالم. بعبارة أخرى، يجعل التنظيم من نفسه، بتقديمه هذا القدر في بلد لا يقدّم إلا القليل، كالأب الذي يغدو أبناؤه متعلقين أكثر فأكثر بوجوده المهيمن وكرمه.

لهم ألوان مختلفة

فقاعة لجميع الأحجام

يأوي لبنان العديد من الجماعات السياسية والعديد منها مسلّح، ويشكل الحزب السوري القومي الاجتماعي واحداً من هذه الفئة الأخيرة، والذي، على غرار حزب الله، شارك مشاركةً نشطة في الحرب السورية لصالح النظام. يناصر هذا الحزب الذي أسسه عام 1932  أنطون سعادة، قيام دولة- أمّة سورية تضم لبنان، ومن هنا فهو يرى أنّ مصير لبنان يرتبط ارتباطاً حتمياً بمصير سوريا. وبطريقةٍ ما، يقع الحزب السوري القومي الاجتماعي على الطرف النقيض من حزب الله، فهذا الحزب العلماني، بالتأكيد، والصغير، الذي لا يتمتع بموارد كافية، ليست لديه قاعدة طائفية محددة سلفاً، أو منطقة واضحة خاصة به، أو قدرة على توفير الخدمات الأساسية. ولكن على الرغم من هذه الاختلافات العميقة، توجد العديد من النقاط المشتركة في آليات المجموعتين من حيث استقطاب الشباب، ما يشير إلى نموذج أوسع يمكن تطبيقه على جماعات أخرى.

وكبداية، من المرجح أن ينخرط فردٌ ما في الحزب السوري القومي الاجتماعي إن كان أحد أبويه أو كلاهما أعضاءً فيه ويعرّفان عن نفسيهما على أنهما "سوريان". وهنا أيضاً، يطّلع الأطفال، خلال نموهم، على سردية ومشهدية معيّنة، في فضاء قد لا يكون بمساحة الضاحية وموقعها القريب من العاصمة ولكنه يشكّل واقعهم. يشكّل تأليه القيادة، وعقيدة الاستشهاد عنصران أساسيان في تلك البيئة: سعادة، الذي اتُّهم بالتآمر للانقلاب على الحكومة اللبنانية، أُعدم في الثامن من شهر تموز عام 1949، ولكنه لا يزال موقّراً، حيث يحيّي الأعضاء صورته بشكلٍ منهجي، ويعظّمون حكمته ويستشهدون بتعاليمه.

يرتاد الأطفال المنحدرون من عوائل "سورية" جمعيات كشفية خاصة، ما يساعد على تطوير هوية ورؤية للعالم عبر نشاطاتٍ جسدية مترافقة مع تعليمات ذات طابع عقائدي. وفي أحد الخطابات خلال حفل تخرّج مجموعةٍ من كشافة الحزب السوري القومي،اقتبس أحد الكوادر أنطون سعادة قائلاً "النباتات الجيدة تنمو بالعناية."


تؤثّر عملية الاختيار النخبوية على حسّ الانتماء ووضوح الأفق

يمرّ الأشخاص الذين يتطلعون إلى الانضمام للحزب، بغضّ النظر عن خلفياتهم أو نشأتهم، في عملية استقطاب مدروسة عند بلوغهم سنّ الرشد. ويشمل ذلك سلسلة من الصفوف التأهيلية يطرح فيها الكوادر من الشباب في الحزب ممّن يتماهى معهم المجنَّدون أسئلة وجودية ليناقشها هؤلاء، ويتشاركون معهم تعاليم سعادة ويخلقون فرصاً أمام المجموعة للتخالط الاجتماعي. وتشكّل "المحاضرات العشر" التي ألقاها سعادة عام 1948 لشرح ماهية الحزب وشرح عقيدته وكيف ينبغي على الأعضاء أن يفكروا ويتصرفوا بالتحديد، جوهر المنهج الدراسي. تُرى هذه المحاضرات على أنها توفر حلولاً لجميع المشاكل تقريباً، ويُتوقع من الطلبة أن يحفظوها عن ظهر قلب وأن يقتبسوها عند رغبتهم بذلك. وتحتوي هذه المحاضرات، بالنسبة للمؤمنين- على غرار خطابات نصر الله المتكررة بالنسبة لمقاتلي حزب الله- الشرارة التي تنعش الحقائق في لحظات الشك.

يشكّل النجاح في الامتحانات النهائية لحظة الانضمام إلى التنظيم بشكل رسمي. ويتربى المتقدمون بطلب الانضمام في تلك الأثناء على فضائل العلم، ويُحفَّزون على اعتبار العقل "القائد الأعلى"، ويتربّون على النظر إلى أنفسهم على أنهم صفوة المجتمع، وهو ما يتناقض مع سمعة الحزب بأنه يتصف بالوحشية. وتؤثّر عملية الاختيار النخبوية هذه على حسّ الانتماء ووضوح الأفق والمكانة والتميز التي يسعى إليها ضمنياً العديد من المجنَّدين.

يُدعى المبتدئون إلى إحاطة أنفسهم بأشخاصٍ يشبهونهم في التفكير. وتُعتبر بعض مقاهي منطقة الحمرا بأنها "لهم"، بمعنى أنها تُرى – ضمناً وإنما على نطاقٍ واسع- على أنها "منطقة الحزب السوري القومي". وسرعان ما تصبح هذه المقاهي أماكن مفضّلة للدرس أو لقضاء الوقت. وبشكلٍ أعمّ، يعمل التنظيم وسيطاً للشباب الذين أصبحوا على أبواب سنّ الرشد، فيوفّر لهم أماكن تبعث على الطمأنينة لكي يرتادوها، وأشخاصاً ودودين ليلتقوا بهم، وشبكة علاقات ليستندوا إليها. وعلى سبيل المثال، يشبه أحد مواقع الحزب القومي السوري الإلكترونية الموجّه للطلبة دليلاً يضم لائحة بالمطاعم والمنامات والفنادق وشركات سيارات الأجرة التي يمكنهم الاختيار من بينها. ليس فضاء الحزب السوري القومي محافظةً أو بلدةً أو حياً، وإنما أرخبيلاً هو وإن كان غير مرئيٍ فإنّ خريطته واضحة المعالم. لا يرتدي "سكان هذه الجزر" لباساً معيّنا، ولكن يمكن التعرف عليهم بسهولة من تحيتهم الخاصة: "تحيا سوريا".

يتألف باقي العالم من "الآخرين"، أي الذين لا يفهمون أنّ توحيد سوريا يشكّل واجباً أسمى، تماماً مثل هزم الصهيونية (مصطلح يُستخدم مرادفاً لإسرائيل). هذه الأهداف المطلقة أساسيةٌ لفهم التنظيم لوجوده، ما يقضي على أيّ ضرورات لتحقيق أهداف أكثر وضوحاً. قال أحد الناشطين في الحزب السوري القومي: "كما انتظر الشعب اليهودي ألفي عام لاستعادة فلسطين، مستعدون لننتظر، على الأقل، المدة نفسها لاستعادتها." يشكّل الصمود، بأيّ وسيلة كانت، غاية بحدّ ذاته. وضمن عالم العقل، لا توجد، في نهاية المطاف، سوى مساحة صغيرة للنقاش.

مدرسة كونية

حلقة مفرغة

من الطبيعي، حتى في بيئة أقلّ استقطاباً من لبنان، أن تسعى الجماعات السياسية إلى مداهنة مناصريها، واستقطابهم وحشدهم. أضف إلى ذلك أنّ عملية الفصل التي تساهم فيها هذه الجماعات ليست من صنعهم وحدهم على الإطلاق؛ ففي لبنان، كما في أيّ مكانٍ آخر، يمكن أن يُنتج الترعرع في قريةٍ نائية أو في حيٍّ مهمَل أشكالاً حادة من العزلة. وتستند المجموعات الهامشية التي تُعدّ "إرهابية" على عمليات التجنيد التي تستفيد من سلسلة مألوفة من التشكّل اللاإرادي، والتعرض لسردية تنظيمية، واللقاء بشخصية مؤثّرة وودودة، وبلوغ أشكالٍ أخرى من المكانة والقدرة وتحقيق الذات. ومن المدهش أنّ الطوائف، وحتى النقابات حول العالم، قد تستخدم آليات مشابهة.

ما يميّز لبنان هو صعوبة التخلص من هذه التصنيفات

ولكن ما يميّز لبنان هو صعوبة التخلص من هذه التصنيفات، فالدولة فشلت في تقديم هوية متماسكة، ولو من خلال شيءٍ أساسيٍ كتاريخٍ وطنيٍ متوافَقٍ عليه، وهو ما يُدرّس، أي التاريخ، بصِيغه المتضاربة، داخل الجيوب الحزبية. وخلافًا لمعظم البلدان الأخرى، ليست للبنان، تقريباً، أيّ مؤسسات، أو حتى مساحات مادية متاحة، تتيح تخالطاً اجتماعياً ذا مغزى. أمّا اقتصاد لبنان المتدهور فهو مصمم تقريباً لإرغام الشباب على الهجرة أو على السعي للانضمام إلى الجماعات التي توفّر ما يشبه الارتقاء، لذا، فإنّ تطور هذا الارتقاء هو في الوقت عينه نتيجةٌ لضعف الدولة وسببٌ له؛ حلقةٌ تعزز ذاتها. ويؤدّي تمتين الكتل السياسية المنافسة التي تعمل على أساس أجنداتٍ وسردياتٍ متضاربة بدوره إلى تقويض الحكم ويضع الشرائح الاجتماعية بعضها في مواجهة الآخر

ولعلّ أكثر ما يثير القلق هو الدور الشائن للتعليم العالي الذي ينبغي عليه، بالمبدأ، أن يجهّز النخب المبشّرة بالنجاح على أن لا يقتصر دورها على تكرار الأنظمة القديمة المختلة. وبالفعل، تفتخر الجامعات اللبنانية لا بمعاييرها العالية وحسب، وإنما بتنوع جسمها الطلابي. في الظاهر، المشهد الوهمي مثالي: الجامعات أماكن تعج بالحياة ومليئةٌ بالشباب اللبناني اللامع الذي يبدو أنه يعكس كل مكونٍ من مكونات المجتمع، ويتطلع إلى مستقبل أفضل. أمّا في الواقع، فإنّ هذه الجامعات تتخطى نظيراتها في العالم من حيث السماح بالتجاوزات السياسية والحزبية. وإجمالاً، تهيّئ الجامعات، من خلال النسيج الحياتي لطلابها، ومن خلال تصميم مناهجها الدراسية، غالبيةً من الشباب اللبناني إمّا للانصياع أو للمغادرة، وكلا الخياران يؤدي إلى هجرة الأدمغة الذي لم تعد البلاد تتحمله.

إنّ أثر الحزبية، في نهاية المطاف، هو إضعاف الشباب في لبنان من خلال تجهيزهم، منذ اليوم الأول، بعصبات أعين إمّا تعتّم على شرائح كبيرة في بلدهم أو تشوهها، والعديد يجهلون كم أنّ معرفتهم محدودة. يتعلم الطلبة، في مادة التسويق، أن يواكبوا أساليب التسويق- كالرسائل وأمكنة وضع المنتَجات واختيار الألوان- التي يُقصد منها التأثير على خياراتهم في الشراء، ولكنهم يبقون مستهلِكين، وإنما أكثر حذراً ووعياً للذات، علماً أنهم قد يشترون السلعة نفسها، ولكنهم سيكونون أحراراً في اتخاذ خيارات مختلفة واختبار تجارب جديدة. ولكنّ الشباب اللبناني، في شرنقته، يمكن أن ينمو له أيّ شيءٍ ما عدا الأجنحة.

20  آذار/ مارس 2017

آية فاطمة شمس الدين: زميلة في سينابس 

قامت بالترجمة للعربية ليلى شمس الدين 

تم استخدام الصور بموجب رخصة المشاع الابداعي من:

 photos 1, 2, 3, 4 and 5 by  Biswarup Ganguly

The city that didn't know where to start

Tripoli’s revolving stalemate


تمرد الطبيعة

شحّ المياه في أرض الخيرات


الجيل اللبناني الصاعد


اشترك لتلقي منشورات سينابس. ننشر فقط ما يدعونا للفخر

مطلوب *