الجيل اللبناني الصاعد
آية فاطمة شمس الدين
يملك الشباب اللبناني كل ما يريد، او قد يبدو الأمر كذلك للوهلة الأولى. فالانتخابات النيابية التي حصلت في أيّار 2018 بعد توقّف دام تسع سنوات، تضمنت وجوها شابة مشرقة على اللوحات الاعلانية. الكتائب اللبنانية، احد الأحزاب اللبنانية العديدة، ملأ الشوارع بصور مراهقين بعنوان "نبض التغيير". المصارف اللبنانية تتنافس لاصدار منتجات خاصة بالشباب مع شعارات مثل "حظوة الشّباب" خطاب المسؤولين الرسميين يمدح الابتكار و الابداع في حين أن السفارات الأجنبية تمول مشاريعها الخاصة لتمكين الشباب. من كل النواحي يبدو أن الشباب اللبناني مدلّل من الّذين يكبرونه سنّا الحريصين على تجهيز "قادة الغد" لتولّي الأمور.
لا شك انّ مستقبل لبنان في يد شبابه. هنالك وفرة في قادة قيد التجهيز: رجال و نساء، يتكلمون لغتين بطلاقة على الأقل، تسنت لهم الفرصة ان يسافروا و يتعارفوا، و دائمي البحث عن فرص مناسبة للنجاح. مع ذلك، يشعر الشباب اللبناني الطموح بكل شيئ الّا وفرة الحظ. بل على العكس، يشعر بالقمع و انعدام الجدوى من كل جوانب المنظومة التي ولد فيها و التي تميل الى دفعه نحو احزاب سياسية او نحو الهجرة او نحو الانغلاق داخل "فقاعته" الخاصة، سهلة الادارة. بمعنى آخر، لبنان يدفع شبابه في كل اتجاه ما عدا الاتجاه الصحيح- اي نحو التزام بنّاء و جدّي تجاه مستقبل بلده
ينشأ هذا الشعور في البيت، ممتدّا الى عمق هوية هؤلاء الشباب. على الرغم من ان الشباب في العشرينات من عمرهم ولدوا بعد الحرب الأهلية التي عاشها أهلهم بين 1975 و 1990، هم يتأثرون يوميا بمحيط عائلتهم التي لم تحظ بفرصة للشفاء من تجربة الحرب. هم غالبا رهائن لتجربة أهلهم القاسية في الحرب، و من دون أن يلاحظوا، يتبنون معتقدات و افتراضات لا يجدون لها أي تبرير.
قلّة من شباب الطائفة الشيعية وطأ أقدامه في طرابلس السنية-ثاني أكبرمدينة في لبنان، غنية بالتراث الوطني، تبعد 80 كيلومترا شمالا من بيروت. كذلك قلّة من شباب الطائفة السنية يغامر بالدخول الى جنوب لبنان-الشيعي في غالبيته. جميعهم حذرّهم أهلهم من خطورة هذه المناطق رغم أنّ مخاوف من هذا النوع تنبت من صدمات من الماضي و ليس من وقائع حديثة. بما أن الحرب الأهلية لا تدرّس و لا تذكر في المناهج المدرسية، يتحمّل الأهل مسؤولية تعليم أولادهم عن ماضيهم، عن المجتمع الذي ينتمون اليه، و يلقنوهم من هم أهل الثقة. اذا كانت هنالك عملية نقل للذاكرة، فتكون خلال تلميحات الى أحداث لا يصّح ذكرها، او من خلال استذكار دائم لأحداث مؤلمة. لكن في الحالتين، ان كان من خلال جعل موضوع الحرب محظورا ام من خلال تشبث يقارب الهوس بأحداث من الماضي، يكبر جو التوتر العام المتعلق بالحرب الأهلية بدل من أن يساعد على فهمه.
سارة هي باحثة مستقلّة في السابعة و العشرين من عمرها وهي مثال يظهر كيف الحرب الأهلية تشكّل عبئاً على الشباب على الرغم من أنّهم لم يشهدوها أصلا. المكاتب المشتركة في بيروت حيث اعتمدت مركزا لعملها، تتناقض بوضوح مع اجواء بقايا الحرب المعتمة في الجوار. "كل ما كنت أعرفه حتى اتممت العشرين من عمري كان يدور حول فكرة أنّ أبي حارب في صفوف حركة أمل"، قالت سارة و هي تطفئ أوّل سيجارة. "لم اكن حتى اعلم بوجود احزاب غير حركة أمل و حزب الله أعدائهم في تلك الفترة، لكنهم توصلّوا الى هدنة من بعدها و قيل لي أنّ عليّ مناصرتهم كذلك". كالعديد من اللبنانيين، تعلّمت سارة ان تتقبل وجهات النظر هذه من دون تساؤل عنها.
اللافت للنظر هو انّ تجربة والدها تشبه تجربتها كثيرا: "قيل له بين ليلة و ضحاها أنّ الحرب قد انتهت و أنّ عليه ان يعود الى المنزل و يضع سلاحه جانبا. لم يفهم ما يحصل و حتما لم يعط الوقت او الأدوات التي يحتاجها ليتخطى الصراع الذي كان قد أصبح واقعه. اليوم، و بعد 27 سنة، لا يزال واقعه هو واقع الحرب". لكن الأيام مرّت و المعركة تغيّرت: "يمضي كلّ وقته الآن على مواقع التواصل الاجتماعي باحثا عن أي أحد لديه رأي مخالف لسياسة حركة أمل، ليشن هجوما عليه و يهينه" أضافت بسخرية و أكملت تدخين سيجارتها. "فقط عندما بدأت وظيفتي الأولى، و تعرفت على ناس جدد و مناطق جديدة، استطعت فهم لماذا كان والدي عدوانياً و في بعض الأحيان عنيفاً في طفولتي: بالنسبة اليه، الحرب لم تنته بعد".
اللافت للنظر هو انّ تجربة والدها تشبه تجربتها كثيرا
أحد الأسباب في لبنان التي تجعل تجارب آخرين كثيرين مثل تجربة سارة مع والدها هو تقسيم البلد الى محافظات و أقضية ذات طابع طائفي او مذهبي معيّن، ممّا يؤدّي الى تطويق المواطنين للعيش مع اناس من طائفتهم او مذهبهم فقط. تنحصر اذا الطفولة و المراهقة في هذه البيئات المغلقة، ممّا يحدّ من آفاق الكثير من اللبنانيين. فالأطفال و المراهقون يميلون لتلقّي هوية محضّرة مسبقا، تنصب العداء بالفطرة ضدّ أبناء بلدهم الآخرين القريبين و لكن المختلفين تماما. الطائفية التي تكمن في داخلهم تضعهم في وضعية تحسّب و حذر مستمرة حول الآخرين "الأغيار"، مما يؤدي الى عدم الشعورالشباب بالأمان في معظم المناطق اللبنانية.
عدم الارتياح هذا متعدّد الطبقات، علما أنّ العوائق الاقتصادية و الاجتماعية تتكدّس فوق ذاكرة اجتماعية مشحونة بالتوترات. النضوج، الحصول على شهادة تعليمية ومغادرة بيت الأهل للاستقلال كلّها ضغوطات ليست بسيطة و لا سهلة. بطالة الشباب مرتفعة تصل الى 20.6% وفقا لأرقام رسمية. شهادة جامعية ذات مصداقية تكلّف ما بين ال8000 و 13000 د.أ في الفصل الواحد، ممّا يجعل 83% من الطلّاب يعتمدون على أهلهم كليّا لدفع الأقساط واعالتهم. بعد ذلك يقضي حاملو الشهادات معدّل عشرة أشهر ليجدوا عملا، و لن يكون بالضرورة العمل المناسب حيث أنّ 41% من الموظفين في لبنان يعتبرون أنّ عملهم غير مرتبط أبداً بدراساتهم.
يضاف الى ذلك انّ ظروف العمل ليست مريحة و لا ملائمة. الحدّ الأدنى للأجور450 د.أ في بلد معدّل أجار السكن فيه في محيط بيروت يقارب ال500 د.أ.، علما أنّ حتّى حاملي الشهادات الجامعية يتقاضون ما يقارب الألف د.أ. بسبب هذه الظروف يتجنّب الشبان و الشابات الانتقال من منزل أهلهم، فبدل من ان ينفقوا كل مدخولهم على إجارمنزل و طعام، يؤجلون استقلاليتهم و اكتمال نضجهم لسنوات عديدة.
في حين ان الشباب ذو مشاريع ريادية عليه أن يتقبّل واقع لبنان الاجتماعي شبه الاقطاعي. كل زعيم سياسي له حصّة من أرباح كل نشاط اقتصادي في منطقته و في حال رفضه ، يخاطر المالك بصمود مهنته او تجارته. مما يعني أنّ النجاح في لبنان متعلّق مباشرة بشبكة معارف و تبادل منافع داخل نظام سياسي راسخ و فاسد.
تستثمر أحزاب السلطة
في مخاوف مناصريها غير المنطقية
بطبيعة الحال، كل هذا يثير حالة احباط شديد لدى الشباب خاصّة أنّه لا يزال يرى منذ ولادته، على اللوحات الاعلانية و على التلفاز نفس الزعماء السياسيين. و في حال حصل تغيير للأشخاص في الحكم، فيكون نتيجة اغتيال او توريث منصب من أب الى ابنه، ابنته او نسيبه. فنتائج الانتخابات التي جرت حديثا في أيّار الماضي، بالرغم من قانون جديد، تؤكّد على هذا المنحى في السلطة. هذا النظام بدوره يدعم دائرة مفرغة، حيث الشباب غير الموهوم بالوعود و التوقعات صرف النظرعن امكانية ايجاد حلول للمشاكل الجتماعية الاقتصادية المتكدسة في البلد.
بالفعل، ان أحزاب السلطة رغم خطاباتها المملؤة بوعود التحسين، تستثمر في مخاوف مناصريها غير المنطقية: فكل طائفة تعتقد أنّ وجودها و بقاءها يدور حول صراع أبدي مع الطوائف الأخرى و الأعداء من دول أخرى الذين ينتظرون الفرصة المناسبة لمحوها عن الخريطة و انّ هذا مصير محتّم تؤجّله فقط حماية زعيم الطائفة. في حال غياب الزعيم، سيتمّ حتما اجتياح البلد، و ستندلع الحرب الأهلية من جديد و سينهار الاقتصاد. نتيجة لهذا الاعتقاد، يقع الشباب ضحية نظام يبغضه و لكنه يبقى غير قادر على الخروج منه بسبب تغلغله العميق في حياته اليومية.
------------ حتّى سيما المعروفة بنظرتها الايجابية للحياة تشعر أنّها رهينة لقدر لا سيطرة لها عليه. "أحبّ لبنان، لكنني أشعر بحاجة للخروج منه كلّ فترة. انه عبء كبير يُحمل كلّ يوم. وسواس الحرب موجود دائماً في رأسي و هذا يُخيفني". في الرّابعة و العشرين من عمرها، "سيما" مستشارة في الشؤون الاجتماعية-السياسية، و تملأ وقت الفراغ بنشاطها البيئي. لكن رغم وجودها في مقهى أليف و مريح، بدت علامات التوتر على وجهها: "أُحس بالاختناق. اسرائيل تحِدّنا من جهة، و سوريا من الجهة الأخرى و ثمّ لا شيئ غير البحر المتوسط".
على الرغم من هذه المخاوف يميل الشباب اللبناني الى التأقلم مع واقع احتمال الحرب من خلال عزل الفكرة عن يومياتهم. عندما يتقبّل فكرة الحرب تراوده منعصّات أُخرى. غالباً ما تدور المحادثات بين الشباب حول مواضيع قد تبدو تافهه و لكنّها تُعتَبر طبيعية و مع ذلك تؤدّي الى حنق شديد. ما يثير السخط قد يكون الوقوف في زحمة سير على تقاطع بينما شرطي السير يقف في الظّل غير مدرك لعمله، ملتهياً بأكل الفول السوداني. لكن "سيما" تُظهر انفعالاً أوضح عندما تتكلّم عن الأًمور الصغيرة: "يا ليت الحرب كلّ ما في الأمر. بيروقراطية الأًمور التافهة هي ما يوترني فعلاً. لا يمكنني القيام بمهمّة بسيطة، ببساطة. الطريقة الوحيدة هي من خلال الغضب و الفساد".
الحصار المطبق على الشباب اللّبناني يضعهم أمام ثلاثة خيارات قاسية، و ليست مثالية. لكن واقع الأمر يفرض إمّا الاصطفاف مع احد الأحزاب أو الهجرة أو الإنسحاب الى عزلة داخلية. الخيار الأبرز الذي اختاره الشبّان والشابات الّذين تعوّدوا على "فقّاعة" الأمان العائلية هو الإنصياع للنظام الحاكم. في هذه الحالة، يتبنّ الشباب الفئة السياسية الأكثر ملاءمة لهويّتهم الإجتماعية فيما يقوم الحسّ الطّائفي الكامن داخلهم بتسهيل عملية التأقلم هذه إمّا عبر المشاركة الفعّالة أو عبر التقبّل المستمر للسردية القائمة.
يجد الشباب في أحضان هذه الأحزاب كلّ ما تعجز عن تقديمه الدّولة عبر مؤسساتها العامّة. فتقدّم لهم المنح الدراسية وفرص العمل والضمان الصحّي والأمن والاستقرار كما الرفع من شأنهم. نتيجة لهذه العلاقة يغدو لديهم إحساس شديد بعدم الاكتراث بلبنان كدولة. فمن جهة يستمدّون من بيئتهم الحزبية نوعاً من الثقة بالنفس والرّضا حتّى الإستعلاء، ومن جهة أخرى يدافعون عن طائفتهم من هجوم "الآخر" الذي يهدد حسب السردية الطائفية الحزبية وجودهم وجلّ آمالهم ببلدهم. تزرع كلّ الأحزاب هذه المخاوف عند مؤيّديها الى درجة تجعلهم يشعرون بالعزلة لحظة خروجهم من قوقعتهم الصغيرة في لبنان.
تمثّل ليلى ذات ال25 ربيعاً مثالاً صارخا على هذه العزلة، فرغم قيادتها سيارتها يوميا الى مكان عملها ورغم سفرها المستمرّ خارج البلاد وخارج المدينة فلا تنفكّ ان تشعر بالعزلة خارج بيئتها. "المنطقة الممتدة من وسط البلد الى خليج الزيتونة جميلة للغاية. أريد دوماً التقاط الصور لأشجارها المزهرة ومبانيها المحاذية للبحر، ولكن هل أرى نفسي أسكن هذه المنطقة؟ قطعا لا." وأكملت رغم تعجّبها من كون مكان جذّاب لها موحشاً للغاية رغم بعده مجرّد عشر دقائق عن منزلها: " أحب القدوم الى هنا والتنزّه مع قهوتي، ولكن في الواقع لا أنتمي الى هذا المكان ولا أشعر أنّني مع أهلي. حتّى شرطة المرور تبدو مختلفة في مكان سكني. أفضّل أن أكون في منطقتي مع أهلي وحزبي."
الهجرة تكون غالباً قراراً متردّداً
هذا الشعور بالغربة شائع عند الشباب اللّبناني الذي قد يشعر بالقلق عند ابتعاده مجرّد شارع أو اثنين من منطقته الحاضنة. هذا القلق الى جانب الواقع الاقتصادي ذي الأفق المريرة يترك الشباب اللّبناني مختنقاً وحالماً بتنفّس الحريّة في بلاد أخرى. قرار الهجرة تكون غالباَ قراراً متردّداً، فإنّ 49% من اللّبنانيّين ما بين ال18 وال35 سنة يتمنّون أن لا يضطرّوا للهجرة. أمّا النصف الآخر، فقرارهم بالرحيل عادةً ما يبدأ عند عدم قدرتهم حتّى على تصوّر حياة يريدون أن يعيشوها في لبنان. "لبنان قاتلٌ للأحلام." علّقت امرأة طموحة في بداية مسيرتها المهنية. لقد أدركت عندما استسلمت لعجزها عن العثور عمّن تلقي اللّوم عليه،أنّه قد آن الأوان لها بالرّحيل.
تتمثّل إحدى طرق الهروب الشائعة بالسعي لتأمين تأشيرات طلابية عبر الحصول على رسائل قبول من جامعات أجنبية، وتكون هذه الطلبات عشوائية في كثير الأحيان. البعض الآخر من الخرّيجين أيضا يسعون للإلتحاق ببرامج دراسات عليا هربا بالدرجة الأولى من الجمود في سوق عمل معتم الأفق. بمعنى آخر، فإنهم يواظبون على الدّراسة في الخارج كي لا يصبحوا عاطلين عن العمل في الدّاخل.
سُرّحت ندى من عملها حينما اضطرّت شركتها الى تقليص النفقات. لكنّها كانت على متهيّئة لهذه الحادثة، اذ كان بحوزتها قبولٌ في برنامج للدراسات العليا في إحدى جامعات أوروبا. عند اتمت الثالثة والعشرين من عمرها وسنتها الدراسية الأخيرة هناك، دخلت في مخاض البحث عن عمل مع هدف واحد هو: أيّ مكان عدا لبنان! "انّ الأمر مؤسف، فلبنان وطني و أنا أًحبّه و قد رأيت فيه امكانيات كثيرة ولطالما كان أملي به كبيراً. ولكنّ هذا الأمل لم يعد موجوداً". "كان جلّ خيبتي من النّاس قبل حكومتهم، ففي ال2015، حينما كنّا غارقين في أزمة النفايات، نزلت للتظاهر حينها مؤمنةً للمرّة الأولى أنّ التغيير قد يحدث. لكن سرعان ما عاد الجميع الى اصطفافاتهم الطائفية القديمة." قالت وقد اشتدّ غضبها. "في الانتخلبات البلديّة عاد الجميع لانتخاب طوائفهم". "طالما بقيت معادلة «نحن ضدّ الآخر» فلا جدوى من ان نحاول التغيير."
الواقع يظهر أيضاً وجود خوف من بداية جديدة" في بلاد غريبة"
في بعض الدوائر، تصل الرّغبة في الهجرة أحيانا الى حدود اليأس إذ يقوم بعض الشباب في مزاح ممزوج بالجدّية، بالطلب من اصدقائهم ذوو جوازات السفر الأجنبيّة بالزواج منهم. قد لا تتطرّق ندى إلى هذا الأسلوب لكنّها وجدت مخرجاً آخر إذ قالت: "أعرف فتاةً فازت بقرعة الإقامة في لولايات المتّحدة وأريد التقديم أيضا. قد تهزأين منّي ولكن ليس لديّ ما أخسره، سوف أقدّم طلباً كلّ عام، فإنّ الفرصة حقيقيّة وبإمكان النّاس أن تحصل عليها!"، "سوف أتقدّم بالطلب!" قالت بنوبة من الجدية.
هنا يبقى خيارٌ واحد، وقد يكون الأقسى. فالقسم الثالث من الشباب لا يفرّ ولا ينضمّ إلى قافلة الأحزاب انّما يبقى في لبنان ولكن متمسّكا بنقمته. يبرر معظم هؤلاء الذين اعتزموا البقاء قرارهم بالوفاء لعائلاتهم. لكنّ الواقع يظهرُ أيضاً وجود خوف من «بداية جديدة» في بلاد غريبة مما يطغى على مشاق الواقع الحاضر رغم مرارته.
يقول مصطفى الذي يدرس في جامعة مرموقة، اختصاصاً لا يحبّه أنّ: "في لبنان، اتفهّم روح الفكاهة لدى النّاس ونفهم أنا وجاري مزاح بعضنا البعض. أتكلّم العربية مع النّاس في الشارع وفي المطاعم. لا أشعر كأنني غريب كما قد أشعر لو كنت في بلاد أجنبية، ولن أنقطع عن هذا الشعور حتّى لو منحت جواز سفر."
يتقبّل مصطفى كغيره من الشباب ذوي التفكير المماثل أنّ البقاء في لبنان يعني التخلّي بشكل كبير عن الفرص في التقدّم الشخصيّ والنجاح، فهذا ثمن اختياره البقاء في متعة بلده ودفئها. كثيراً ما يرافق هذا الاعتزال تماني متكررّة للمغادرة من دون عودة، رغم عدم اتباعها بأية خطوات فعلية. البقاء في لبنان رغم سياسته يفرض توازناً شاقاً بين الروتين المريح المعتاد و العوائق الدّائمة من قبل النّظام وبين الفرص العديدة الأخرى المتلاشية في الأفق.
لتخفيف وطأة هذا الحال، يلجأ الشباب في لبنان الى اساليب للحفاظ على نفسه، يتعلّم كيفية تجنّب الانهيار عن طريق الاقفال على انفسه داخل فقاعات شخصية تحميه الى اقصى الحدود من الواقع الأكثر تشويشا له، فيحتم داخل الفقاعات من اي شعور بالحزن أو الأسى الذي قد يراوده.
هذا التشويه بتقزيم الشباب لطموحاته وحتّى للمساحة الّتي يحصر بها وجوده وتطوّره. فيُعيد تنظيم حياته ضمن الحدود المتواضعة و الضّحلة التي يستطيع لبنان توفيرها له عوَضا عن الطموحات العظيمة في الإنجاز والإبتكار وريادة الأعمال والتمكين التي تلوّح بها المؤسسات بكل فظاظة النفاق. تشابه معظم هؤلاء الشباب بأنّهم سريعوا التخلّي عن مسؤوليّتهم في إصلاح لبنان إذ يعتبرون أنّهم ليسوا هم من أفسدوه في المقام الأوّل. لقد ولدوا فيه كما هو، فرغم عدم قدرتهم على الإعتماد على المسؤولين الحاليين بالقيام بالتغيير، يبذلون كلّ ما لديهم من جهد فقط لمحاولة التأقلم مع الصعوبات الحياتية الآنية. بينما يكتفي الجيل الأقدم الذي خاض مرار القتال المرير من أجل قضاياهم، أن ينعتهم بالكسل لأنهم لا يقدمون على الأخذ بزمام التحكّم بمصيرهم و مستقبلهم.
ينظر الشباب الى التحديات المذهلة التي ورثوها ويتساءلون من أين يبدأون. من الأمثلة على المشاكل التي يستحيل اصلاحها هو الفساد المستشري و الذي تعتمد عليه فئات كبيرة من المجتمع. وبالفعل، إن أُلغيت المحسوبيات السياسية ونظام المصالح بين ليلة وضحاها، ستفقد فئة كبيرة من اللّبنانيين وظائفها و ضمانها وتقديمات أُخرى بحيث تكاد تعجز عن إعالة نفسها. الانتقال التدريجي من السياسة الشرسة إلى الحكم الصحيح عليه أن يشمل العديد من المشاركين و مستويات عدّة من التدخّلات. فماذا يستطيع الشباب أن يحقق من خلال قلّة التظاهر و قلّة نشاطه الإجتماعي؟
فماذا يستطيع الشباب أن يحقق من خلال قلّة التظاهر و قلّة نشاطه الإجتماعي؟
استطاع "روي" ذو السبعة وعشرين عاماً المحافظة على معنويّات جيدة من خلال تطوير حسّ من الفكاهة السوداء التي توصلّ اليها من قناعته أنّ لبنان محكومٌ عليه البقاء في حالته هذه، وأنّ أفضل ما يستطيع فعله للمواجهة هو المزاح. يقول روي: "لا أظنّ أن جيلنا قادر على أنّ تغيير شيء، انّه نظامٌ صلب وقد بُنيَ ليبقى طويلا. إنّ حكّامنا قد شيّدوا الإمبراطوريّات لأنفسهم وسوف يدافعون عنها بأيّ ثمن، فهم لن يهزموا قبل أن تسفك الدماء." في حين أنّه لا يتبنّى الوضع القائم الا أنّه هو أيضا غير واهم بتغييره إذ يقول:" من وجهة نظري أنه من الجيد الاستمرار في محاربة النظام ، لكن بكلّ بساطة من غير الصحّي أن توضع آمالا كبيرة على حصول تغيير حقيقي. "
انّ تحمّل مسؤولية أوجه القصور التي تراكمت و أثقلت كاهل البلاد على مرّ العقود قد أصبح عبأً قاهراً للشباب الذين في امتناعهم يردّدون لأنفسهم أنّهم غير قادرين على التغيير. ففي كلا الحالتين، يبقى الشعور بالعجز مرهقاً ولو كان سببه ذاتياً، كما يفضي الى نوع من السلبية التي تخدم مصالح السياسيين بالدرجة الأولى. وهكذا يتراجع الشباب الخارج عن الانتماءات السياسية من الفضاء العامّ إلى فضائهم الخاصّ الذي يُحكمون السيطرة على جوانبه، فيحافظون على سعادتهم وراحة بالهم بعيداً عن مشاق المسؤوليات الملقاة عليهم و المتوقعة من جيلهم.
بالإضافة إلى خفض توقعاته، يميل الشباب اللبناني إلى التقليص الطّوعي من مساحة تطوّره الشخصية. فيعمد الى عدة انماط سلوكيّة كالذهاب الى العمل يومياً عبر الطريق ذاته رغم زحمتها كما يرتاد المقاهي والمطاعم المألوفة لديه فقط، وقد يمارسون هواياتهم قبل عودتهم الى المنزل. قد يكون هذا الواقع مألوفاً في بلاد أخرى ولكن الملفت هنا هو الاصرار على عدم محاولة الخروج من دائرة المألوف. فعلى خلاف حالة لبنان ككل، تسير الرياح في هذه الدّائرة كما تشتهي السّفن.
بقيت "ماغي" عاطلة عن العمل قرابة عام كامل بعد تخرّجها كمهندسة عمارة من أعرق جامعة في لبنان، وبحلول وقت بدء حياتها المهنية كانت قد اتقنت روتينها اليوميّ الذي يتمحور حول نشرها أعمالها التصويرية اللّافتة و مشاريعها على صفحتها على انستغرام: "أحاول دوما أن أبقى منهمكة بمشاريعي الصغيرة الخاصة هذه التي تشعرني بالسعادة، واليوغا طبعا! خصوصاً إذا كانت المشاريع على بعد مسافة قليلة سيراً على الأقدام، ولكن عدا ذلك فأنا لا أُبالي. كما أنّني أعمل حالياً على تجهيز أوراقي للهجرة إلى مكان أبعد ما يكون عن هنا."
كثير من الشباب غير المسيّسين هم أكثر طائفيّة مما يدّعون
دافع "ماغي" للرحيل كحال الأغلبية، يتمركز حول الإحباط المقترن بالبقاء، اذ تقول:" يمكنك أن تحصل في لبنان على نوع من التقدير إن كنت فنّاناً لأنّ لهذا المجال سوق خاص، لكنّك تبقى محدوداً بسقف ما وأنا لا أريد ذلك. لا يمكنني فعلا أن أتخيّل لنفسي حياةً في المهجر، ولكن هل أرى مستقبلي هنا؟ أيضا لا." ازداد اكتئابها اذ استمرّت مُحاولة وصف تجربتها قائلة:" كيف للبنان أن يجعلني حزينة ومتفائلةً في آنٍ معاً؟ إنّه أمرٌ مؤلم. إنّ بلدنا هذا يشبه العشيق المؤذي الذي تستمرّين بالعودة إليه أملاً منه في أن يتغيّر رغم يقينك باستحالة التغيّر."
قد يكون مغرياً أن نرى في تأقلم الشباب في أكثر الظروف استعصاءً جانباً ايجابياً و قدرة عالية على المضيّ قدُماً في الحياة. ولكنّ هذا الأمر هو في الواقع جزءٌ من المشكلة، اذ ان تورّط الشباب في نظام سياسي يحثّهم على الإبتكار في التأقلم في مواجة مصاعبه يتحوّل الى نوع من الإذعان، فيعزّز سطوة الوضع الرّاهن أكثر ممّا يعزّز قدرة الجيل الصاعد. وعلاوة على ذلك ، فإنه يجعل الحصول على أي شكل من أشكال الخبرة السياسية المستقلّة من المستحيلات. أظهر الارتفاع في النسبة في مشاركة مجموعات "المجتمع المدني" في الانتخابات النيابية الأخيرة خطوة في الاتّجاه الصحيح، لكنّها بقيت محدودة و محصورة بفئة صغيرة من الناخبين.
في هذا السياق، يتّضح أن كثيراً من الشبّاب غير المسيّسين هم أكثر طائفيّةً ممّا يدّعون. فتسارع انحيازاتهم الدّفينة بالظهور بالرّغم من مستوى تعلّمهم العالي وكثرة سفرهم.
هند، وكريستين و عليا، هنّ زميلات مدرسة بقين على تواصل مباشر مستمر، و ليس فقط عبر مجموعتهن على "الواتس آب" التي تنهمكن فيها عامّة بالتذمّر من لبنان. وفي لقاء على الفطور، قامت الفتيات بغير تعمّد بتمثيلية متقنة
فقالت عليا:" يذهلني كيف يمتلك الشباب حتّى من جيلنا مواقف صارمة من الحرب الأهلية دون فهمها... لماذا يكره شاب من جيلي شاباً آخر لمجرّد كونه من طائفة أُخرى و حزبٍ ماا؟ وفقاً لماذا؟"
أجابت كريستين مؤيّدة:" أجل، كنت أتساءل عن ذلك. اذ بيننا نحن المسيحيّين يوجد الكثير من العدائية التي لطالما كانت موجودة ولكن دون أن يعلم أحد اسبابها."
ورفعت عليا صوتها:" إنّ جميع ممثّلينا السّياسيّين مجرمو حرب! و هذا السبب وحده يدفعنا الى التفكير في الحرب."
أكملت هند متأمّلة:" سوف يموتون جميعا يوماً ما، وعندئذٍ سيبقى ورثتهم من أبنائهم الّذين ليسوا مذنبين بقدرهم، ولا يمكن أن يكونوا في مستوى سوئهم."
أثار هذا عليا التي ردت قائلتاً:" لا أرى كيف أنّ لورثتهم الحقّ بتمثيلنا كما تدّعين، لمجرّد انهم ابناؤهم. انّهم يمثّلون جيل الحرب الّذي ما زال يرفض التخلّي عن سلطته."
قالت هند لإضفاء بعد آخر للحديث: "حسناً، في الإنتخابات المقبلة، لمن يجب ان يصوّت سنّة بيروت ان لم يكن لرئيس الوزراء سعد الحريري؟"
أجابت عليا: "أي شخص آخر، ففي بيروت سيكون هناك مرشّحين جدد كما سيوجد نوعٌ من المنافسة. إنّ النّتائج غير محددّة مسبقاً كما في الجنوب حيث لا يمكنك الهروب من هيمنة حزب الله وأمل."
ما نفع ذلك؟" اجابت هند في اضطراب. "سيفوز سعد في جميع الأحوال، وكل ما قد أنجزه بتصويتي للمستقلّين هو اضعافه وبالتّالي تعزيزقوة حزب الله. فلما أفعل ذلك؟ السّنّي من بيروت يجب ان ييعطي صوته لسعد الحريري ونقطة على السطّر."
أصاب ذلك عليا بصدمة شديدة إذ كان لوم اللّبنانييّن على ردود أفعالهم الطائفية واقعاً راسخاً في محادثاتهم عبر الواتس آب: "يدهشني قولك هذا في حين أنّنا قد اتّفقنا مراراً من قبل على أنّه قد فشل كقائد في السنوات الماضية."
أجل، لكن من سيحمي الطّائفة السنّية ان لم يُعد انتخابه؟ انّ الوضع الحالي يُحتمل فقط بسبب وقوفه أمام حزب الله. إن غادر هو أم بقي، حزب الله سيبقى في كلا الحالتين. أفضّل أن لا يبقى الحزب وحيدا في السلطة". خلال هذا الحوار بقيت كرستين على الحياد.
قد يكون في هذا الواقع ذاته مكان عليا وهند وكرستين، حسن وأحمد وميشال. قد يقع هذا الحوار بين معظم شباب لبنان الذي يصارع محاولاً أن يقود حياةً تقدميّة. يبدو أن الهوية اللبنانية قائمة ضمن صراع دائم بين نقيضين اثنين متعايشين في نفس واحدة. ومثلما لا يتطلّب الأمر جهداً لاظهار"الطائفي" في نفوس العلمانيين، لا يتطلّب تجديد الأمل الكثير ايضاً عند اليائسين
غالبا ما ينتقد الشعب اللّبناني بشبابه ورجاله دولته باستمرار، لكنّه سرعان ما ينتقل الى موقف دفاعي عندما يبادر الأجنبي الى انتقاد بنفس الاتّهامات. قد يكون الجانب الأكثر غموضا في كل هذا التحيز وانعدام الثقة والعدوانية الذي يشعر به اللبنانيون تجاه بلدهم، اشتماله على مقدار من الحبّ و الاعتزاز تجاهه أيضاً.
يشعر الشباب اللّبنانيّ عموما بشعور متفلّت قوي بالإنتماء يرسّخ شخصيّتهم، ويبقى لبنان الوطن دون منازع حتى في داخل الذين هربوا منه. لا غنى عن المطبخ اللّبنانيّ ولا مساواة عند الخبز الفرنسيّ بدل المنقوشة من فرن البلدة. القهوة اللبنانية أو العربية الممزوجة بالبهارات تملأ اللّبنانيّ بعاطفة تعبر الحدود. المطربة الأيقونية فيروز التي استطاعت بطريقة ما تجسيد هوية لبنانية عابرة للطوائف نجحت أيضاً بخلق نفس الأثر.
مثال عن هذه العاطفة الانعكاسية العميقة الجذور ما قاله جورج عندما سئل بغتةً عما يحبّه في لبنان. فوجئ جورج بالسؤال وأجاب مبتسماً:" أحبّ ناسهُ، كما أحبّ أنّني قد أخرج في منتصف اللّيل لتناول الطعام وأجد ما أريد. قد تكون الدّول الأوروبيّة منظّمّة ولكنّها فقدت تلك الحيويّة ناهيك عن العائلة كمؤسّسة اجتماعية..." لكنّه اعترف قائلاً:" نعم علينا أنّ نتغيّر، ولدينا كلّ الامكانيّات لذلك، قد لا نقدر أبداً ولكنّي لن أكفّ عن حبّي للبنان مطلقاً."
إن شركات التسويق ومجموعات فيسبوك تبرع في استغلال شوق اللًبنانيين لبعض من البراءة المفقودة منذ زمن طويل. إنه رابط أساسي، وخاصّة للمغتربين، إلى الوطن كما يريدون تذكره. بالنسبة للبنانيين الذين يعطون شرعية لنظام الطوائف، تشكل رموز الوحدة هذه حجر الزاوية الذي لا غنى عنه في ما تبقى من مشروع لبنان الوطني، هذا المشروع الذي تزداد أهميّته كلّ ما تفاقم حال الانقسام في البلاد. بالنسبة لشباب غير تقطعت به السّبل، فإن هذه الارتباطات العاطفية تمثل بشكل جوهري شريان حياة للأمل اللبناني في حين يبدو كلّ شيء آخر مرتبطًا بهذا الحزب أو بذاك.
* * *
اذا كان للبنان، في أفُقه،أملٌ بتغيير نحو الأفضل، فلن يكون لمن اختار الاذعان للنظام أو للذين اختاروا الرّحيل نهائياً فضلٌ في حصول هذا التغيير. سيضطرّ الشباب المستقلّ عندما يحين الأوان أن يأخذوا زمام التحكّم بمستقبلهم. لكنّه قول أسهل من الفعل نظراً الى العوائق اليومية التي يجب عليهم اجتيازها لمجرّد أن يقودوا على حياة طبيعية. فلهذا السبب، أضحى اللّجوء الى الرّومنسية أكثر اغراءً من محاولة تغيير لبنان.
لخطوات التي يجب أن يتبعها هؤلاء الشباب لا تحتاج إلى أن تكون جذرية ولكن من الضروري جدّاً أن يبقوا على تفاعل مستمرّ مع الأزمات العديدة التي تلازم البلاد بأشكالها البيئيّة والسياسية بالإضافة الى عدم المساواة وغيرها. قد يختارون أن يتعلّموا عن موضوع ما ويشاركوا بالتحرّكات الدّاعمة له كما قد يختارون الغوص في تاريخ لبنان الغنيّ عوض أن يبقوا على حدود معرفة سطحية ويمكنهم أيضاً ان يبعدوا بضع مسافات صغيرة علّهم يكتشفون أماكن جديدة و ناساً جدداً في بلادهم. طالما تحلّوا بالإيجابيّة سيبتعدون عن مستقبل ملؤه الندم.
كانت الانتخابات التي أجريت في أيار 2018 خير دليل على حجم العمل الذي بذلته النخبة السياسية وأحزابها للتأكد من بقاء كلّ شيء على حاله. الأمر الوحيد الذي يستطيع الشباب اللبناني تغييره هو أنفسهم. فقط عبر تجنب أسوأ خيارات آبائهم قد يجد الشباب أنفسهم في يوم من الأيام يعيشون في البلد الذي لطالما حلموا به.
4 حزيران/يونيو 2018
آية فاطمة شمس الدين : زميلة في سينابس
تم استخدام الصور من Synaps photography مرخصة بموجب المشاع الابداعي