تمرد الطبيعة
تمرد الطبيعة
شحّ المياه في أرض الخيرات
بيتر هارلينغ
نشأ العراقُ، كمجتمعٍ، من وفرة المياه، فاسمه القديمُ "ميسوبوتاميا" يعني "بلاد ما بين النهرين"، وأيّ نهرين! إنهما نهر الفرات العظيم الذي ينبع من مرتفعات شرق الأناضول، ويشق طريقه في البادية السورية، ليغازل نهرَ دجلة البديعَ الذي ينبع أسفل جبال زاغروس الممتدةِ بمحاذاة حدود إيران الغربية، ثم يلتقي النهران ليشكلا سهلاً منبسطاً وخصباً حمَلَ ثماراً غيّرت مصير البشرية، فعلى هذه البقعة الجغرافية، وبعد مضي آلاف السنين على اتقان البشرية استخدام النار، تعلّم الإنسانُ كيف يطوّع الماء لخدمته.
منذ نحو 7000 عامٍ، طوّر سكان هذه المناطق - المعروفة أيضاً باسم الهلال الخصيب - مزيجاً من الري بالغمر والحراثة بالاستعانة بالدواب، ما مكنهم بدوره من زراعة الحبوب والبساتين؛ وكان هذا الإنجاز جزءاً من عمليات تدجين الحيوانات (كالكلاب والأغنام والأبقار والجمال) والنباتات (كالتمور والعنب والزيتون والرمان والبطيخ، وكذلك الحبوب مثل القمح، والبقوليات كالحمص والعدس)، فنشأ عن هذا النظام الغذائي الجديد مدنٌ كثيفة السكان باتت بحاجةٍ متزايدةٍ إلى أشكالٍ متطورةٍ من الإدارة؛ ولما كان المزارعون يستخدمون الحمير والثيران لحراثة الأرض، وضعتِ النخبُ البيروقراطية البدائية أقدمَ نظام كتابةٍ عرفته البشرية: الكتابة المسمارية.
تأثر العراق كثيراً بهذا الإرث الذي ينتمي أيضاً إلى ثقافتنا العالمية، فهذه الأرض التي كانت تنضح بالمعرفة هي المكان المفترض لجنّة عدنٍ حيث جرف الطوفانُ العظيمُ البشرية كما يروي الكتاب المقدس، وحيث نمتِ الحدائقُ الأسطوريةُ فيما بعدُ في بابل. يتدفق نهرا دجلة والفرات في أوردة العراق كمصدرٍ لا ينضب للحياة والفخر والعادات الاجتماعية، فكلما دخلتَ منزلاً أو مكتباً في العراق سيُرحَّب بك بكوبِ ماءٍ قبل أن تُسأل عما تود شربه، وفي الأماكن العامة تجد موزعات المياه الكهربائية التي حلت محل تقليدٍ ظل قائماً ومحترماً حتى التسعينات: الهيب؛ وهي جرةٌ كبيرةٌ من صلصالٍ كانت توضع في الشوارع فيَغرف منها المارةُ بكوبٍ من صفيحٍ مربوطٍ بسلسلةٍ.
البيئة في العراق تردّ بالمثل
أما اليوم فقد باتت هذه الوفرة مجرد ذكرى من الماضي بعد أن راحت موارد مياه العراق تنضب يوماً بعد يومٍ، ورغم ذلك ما زالتِ البلاد تستهلك الماء وتُلوثه كما لو لم يكن ثمة مستقبلٌ على الأبواب، وقد طال هذا الإسرافُ في أثمنِ ما لدى العراق من مواردَ جميعَ مستوياتِ الدولة والمجتمع، وبات يهدّد كل جانبٍ من حياة الناس، من الأمن الغذائي والصحة العامة، إلى الجغرافيا السياسة، وصولاً لاستخراج النفط.
واليوم نرى كيف أن البيئة في العراق تردُّ بالمثل، فالعواصفُ المطيرةُ والسيولُ تجتاحُ المدن، وتعيثُ في المناطق الريفية خراباً، كما أن العواصف الرملية تزداد وتيرةً فتصنع سحباً من أتربةٍ صفراءَ تغطي ظاهر الأبنية وباطنها، فتبدو المنازلُ موحشةً كما لو أنها هُجرتْ منذ زمنٍ، أضف إلى ذلك امتدادَ مواسم القحط لفتراتٍ طويلةٍ قد تصل أحياناً لسنتين أو ثلاثِ سنواتٍ متعاقباتٍ؛ وقد أدتْ نوباتُ القحط الأخيرة إلى جفاف مساحاتٍ شاسعةٍ من الأراضي الزراعية ترعى فيها قطعانُ الماشية الهزيلة.
بعبارةٍ أخرى، يمكن القول إن إرثَ العراقِ العريق والمقدس يتدهور تدهوراً ينبئ بمستقبل كارثيٍ؛ وقد لخّص شابٌّ نشأ في بغداد وسط كل ما صنعتْ يدُ الإنسان من ضروب الاضطرابات كيف أمستِ البلاد في مهبِّ تأثيرات تغير المناخ بقوله: "لقد آن للطبيعة أن تتمرّد".
ألصقِ الملامة بجارك
وفيما يستنزف العراق مياهَه، يلجأ العراقيون إلى تفسيراتٍ واهمةٍ ومُطَمْئِنة لشح المياه فيه، فيتهمون جيرانهم بالاستئثار بالذهب الأزرق الذي يرون فيه أحدَ حقوقهمُ الطبيعيةِ. "ينبغي ألا نستورد المنتجاتِ الغذائيةَ من تركيا وسوريا وإيران"، قال بتذمرٍ مسؤولٌ رفيعٌ في وزارة الخارجية العراقية سبق له أن عمل طويلاً في ملف المياه، ثم أردف قائلاً: "هذه الفاكهة والخضراوات سُقيتْ بالمياه التي سُلبت منا، وينتهي بنا الأمر بشرائها". إنّ جلّ التصريحاتِ التي يُدلى بها رداً على موجات الجفاف المتكررة في العراق تُلقي باللائمة على الممارسات الضارة للدول المجاورة.
يعتمد نهرا دجلة والفرات اعتماداً كبيراً على الروافد في الدول الأخرى، ولا سيما تركيا وإيران اللتان تستجرّان كمياتٍ كبيرةً من المياه من المنبع؛ ففي السبعينات، راحت أنقرة، شأنُها شأنُ بغداد في ذلك الوقت، تستثمر استثماراً هائلاً في تشييد السدود، وستة سدودٍ من أصل 22 سداً كانت تركيا قد خططت لتشييدها لم تُنجز بعد، الأمر الذي يشكّل تهديداً كبيراً يلوح في أفق العراق، فعند اكتمال تشييد هذه السدود سينخفض منسوب مياه الفرات بنسبة 25 بالمئة عن منسوبه الأصلي. يتجاوز إجمالي سعة تخزين المياه في تركيا التدفقَ السنويَّ للنهرين مجتمعين، ولذا يمكن لأنقرة اليوم، إن أرادت، قطعُ المياه عن العراق لسنةٍ كاملةٍ، وهي سطوةٌ تجلّت في أواخر التسعينات حين جعل افتتاحُ السدود الكبرى في تركيا من دجلة جدولاً هزيلاً يستطيع سكان بغداد عبوره مشياً على الأقدام، وأكثر ما يؤلم في هذا المشهد هو تلك الجسور العريضة المبنية على النهر.
ومؤخراً راحت إيران التي تعاني القحطَ تسعى إلى احتواء مواردها المائية وإعادة توزيعها محلياً، فحولت مسار روافدَ مهمةٍ من روافد دجلة، لا سيما سيروان وكارون؛ وما زاد الطين بلةً هو تحويلُ إيران هذين الرافدين مصباً لمياه صرفها الصحي ونفاياتها الزراعية والصناعية التي تضخها خلف حدودها بدلاً من معالجتها على أراضيها. "لا يأتينا من إيران سوى المخدرات والميليشيات ومياه المجارير"، قال ساخطاً أحد سكان البصرة، ثاني أكبر مدن العراق، والواقعة في أقصى جنوبه، وما يؤكد صحة كلامه تصاعد الروائح الكريهة من السطح اللزج لشط العرب، ذاك الممر المائي الذي يشكله التقاء نهري دجلة والفرات.
(أما سوريا التي أنهكها الصراع في السنوات الأخيرة، فليست في موقعٍ يمكّنها من مفاقمة مشاكل العراق، غير أن تعافيها رهنٌ بإحياء القطاع الزراعي الذي سيعتمد كثيراً على استجرار المياه من الفرات.)
إن العراق محاطٌ ببلدانٍ متعطشةٍ للمياه في منبعها، وعاجزٌ عن الدفاع عن مصالحه في هذين النهرين الكبيرين، فقد راحت الاتفاقات الرسمية حول تقاسم المياه تتراكم على مراحل منذ عام 1920، غير أنه يجري تجاهلها في الغالب، وبات من الصعب اليوم تصورُ كيف للطبقة السياسية المشتتة والأنانية وقصيرة النظر في العراق أن تحصل على شروطٍ أفضل. غير أن هذه المشاكل عويصةٌ ومبالغٌ فيها في آنٍ معاً، فرغم تغلغلها في وعي العراقيين، فإنها تَصرف كذلك انتباههم عن تقصيرهم في السعي لحفظ مواردهم بطرقٍ لا علاقة لها بالجغرافيا السياسية.
ثروةٌ تتبدّد
يمكن إلى حدٍ ما ردّ هذا التركيز المنحرف إلى كيفية استحواذ نهر الفرات على نفسية العراق، فالنهر مذهلٌ، وأقربُ ما يكونُ إلى واحةٍ تمتد كأعجوبةٍ عبر مئات الأميال من الصحراء، لكنه أيضاً أكثرُ مصادر المياه تزعزعاً في العراق، ما يجعل من تدهوره المستمر مصدرَ قلقٍ بقدرِ ما هو مصدرُ رهبةٍ وذهولٍ؛ أما نهر دجلة فهو أقل سحراً لكنه أكثر أهميةً بكثيرٍ لأنه يغذي ثلثي أراضي العراق المروية، كما يمكن الاعتماد عليه اعتماداً أكبر لأن نصف تدفقه الإجمالي يأتي من داخل العراق.
لا جدال أن معظم مشاكل العراق المائية، وجميع الحلول الممكنة تقريباً، تكمن داخل حدوده. يمكن تصنيف نحو97 بالمئة من أراضي العراق ضمن الأراضي القاحلة أو شبه القاحلة، غير أن العراق يظلُّ غنياً بالمياه وفقاً للمعايير السائدة في المنطقة؛ ففي عام 2004 كان العراق يحظى بنحو 2500 مترٍ مكعبٍ من المياه العذبة للفرد، أي ما يفوق معدلات المملكة المتحدة وألمانيا، وما من دولةٍ عربيةٍ تحظى بأكثر من 1000 مترٍ مكعبٍ للفرد، في حين تحظى الدول الفقيرة بالمياه كالكويت واليمن والسعودية وليبيا بأقل من 100 مترٍ مكعبٍ للفرد.
ترسم هذه الوفرة ملامح البلاد بقدر ما تصنع ثقافتها، ففي العراق تجتمع الصحاري الشاسعةٌ مع الأهوار مترامية الأطراف في الجنوب، والبساتينُ الخضراءُ في الشرق، والسهول البعلية في الشمال الغربي، والجبال المكسوة بالثلوج في كردستان، وفي كل بقعةٍ منه بساتينُ النخيل التي يُقدر عدد أشجارها بنحو 20 مليون شجرةٍ، وهو رقمٌ قياسيٌّ عالميٌّ. وبصرف النظر عما فيه من آثارٍ، تتركز السياحة الداخلية حول السدود والخزانات الاصطناعية وتأجير القوارب والحدائق الترفيهية في الجزر. سمك المسكوف هو الطبق الوطني الذي لا يبدو أن العراقيين يملّون أكلَه، ويُقدم عادةً مع أرز العنبر، وهو صنف محليٌّ عطريٌّ يزرع مروياً بالغمر.
من اغترّ زلَّ
غير أن هذه الثروة تتبدّد بالسرعة التي تتجدّد فيها، إذ يُنتج العراق نحو 22 مليار مترٍ مكعبٍ من المياه العذبة سنوياً، فيتسبب طقسُه الحارُّ جداً بتبخر 19 مليار مترٍ مكعبٍ منها؛ ولذا فالتبخر هو ما يجعل البلاد بحاجةٍ ماسةٍ لتدفق المياه من الدول المجاورة. يحدث معظم هذا التبخر في البحيرات الاصطناعية الضخمة التي تُستخدم كخزاناتٍ للمياه لا تناسب بيئة البلاد وإن كانت في صلب سياسات إدارة المياه؛ كما تطال الخسارةُ الأهوارَ الخصيبة في الجنوب، ما يهدد بدوره بفقدان كثيرٍ من النباتات والحيوانات المرتبطة بالنظام البيئي في تلك المنطقة.
وبذا يعيش العراق في توترٍ مستمرٍ بين الندرة والوفرة، فعلى مرّ التاريخ، طالما كان وجود هذا البلد قائماً على الإدارة الحذرة والدقيقة لثروته المائية المتذبذبة. قبل أربعة آلاف عامٍ، أتى القحط والمجاعة على الإمبراطورية الأكادية القوية، وفي عام 1700 قبل الميلاد، سجلتِ الألواح الطينية التهديد الذي تعرضت له الزراعة حينئذٍ بسبب ازدياد ملوحة التربة، وفي القرن العاشر، كان من أسباب انحدار الدولة العباسية المترفة تدمير قناة النهروان، ذلك الممر المائي الذي جعل من وسط العراق سلّة الخبز إبان العصر الذهبي للإسلام. بعبارةٍ أخرى، يمكن القول بأن من أفرط في ثقةٍ زلّتْ به قدمٌ.
تغير المناخ
واليوم يثير تغير المناخ مثل هذه الحكايات التي تحمل في طياتها كثيراً من التحذيريات، فدرجات الحرارة ترتفع ببطءٍ وبثباتٍ في آنٍ معاً؛ ففي عام 2016، سجلتِ البصرة درجة حرارةٍ 53.9 درجةً مئويةً، وهو الرقم القياسي العالمي تقريباً، وبموازاة ذلك انخفض هطول الأمطار: قدّر ناشطٌ شابٌّ في بغداد أن تساقط الثلوج في الشمال الشرقي انخفض بمقدار الثلث مقارنةً بالمعايير التاريخية، كما أن القلق يساور المزارعين في السهول الشمالية الغربية المعروفة باسم "ممر المطر" بعد تراجع هطول الأمطار اللازمة لزراعة الحبوب ورعي الماشية؛ وقد توقع البنك الدولي زيادةً كارثيةً بمقدار درجتين في متوسط درجات الحرارة بحلول عام 2050 وانخفاضاً بنسبة 10 بالمئة تقريباً في هطول الأمطار سنوياً، ومن شأن هذا التحول أن يؤدي إلى تفاقم تبخر المياه وتحويل التذبذب الذي يعاني منه العراق إلى أزمةٍ حقيقيةٍ.
سوف تتقاطع هذه التوجهات مع مجموعةٍ من المشاكل الأخرى وتعززها، فمن المرجح أن يؤدي الإجهاد المائي على مستوى المنطقة إلى توتير العلاقات مع دول المنبع التي ستصبح أقل تعاوناً بسبب مشاكل المياه. علاوةً على ذلك، قد يؤدي تغير المناخ إلى تحفيز دينامياتٍ تتعزز ذاتياً، فعلى سبيل المثال؛ يرى العلماء أن العواصف الرملية تُضعف تشكُّل السحب بطرقٍ تفاقم انحباس المطر.
وغالباً ما يفاقم سلوك الانسان المشكلة، ففي أشهُر الصيف يميل العراقيون الى استخدام المكيفات بكثرةٍ، فتنفث حرارةً إلى الخارج بقدر ما تعطي هواءً بارداً في الداخل، كما يحاول العراقيون تبريد أنفسهم باستخدام أنظمةٍ مهدرةٍ للغاية تعتمد على التبخر، كمروحة التبريد القديمة التي تضخ الهواء من خلال قشٍّ مبللٍ بالماء، وسكب الماء على الأرصفة، ورش الماء في الهواء، وقد ذُهل عاملُ إغاثةٍ عراقيٌّ عندما رأى "الحمّاماتِ المفتوحةَ التي يستخدمها الناس لإنعاش أجسادهم" في سوق الشورجة الشعبي.
ومن سخرية الأقدار أن العراق مهددٌ بنوعٍ آخر من الوفرة في المياه، فقد أدى انخفاض منسوب المياه في النهرين إلى ارتفاع مستوى البحر الذي راح يزحف إلى شط العرب؛ وقد يؤدي ارتفاع مستوى البحر الناتج عن الاحتباس الحراري إلى كارثةٍ في السهول المنبسطة في الجنوب، فارتفاع مستوى البحر بمقدار مترٍ واحدٍ سيجبر مليوني نسمةٍ من سكان البصرة على الرحيل عن مدينتهم، أما ارتفاع ثلاثة أمتارٍ فقد يجتاح مسافة 150 كيلومتراً داخل البر ويغرق ملايين آخرين.
كما أن تغير المناخ يعني أن الأمطار حين تهطل، فإنها تهطل بغزارةٍ، ففي كل سنةٍ تقريباً تحدث أزمةٌ ناجمةٌ عن العواصف المطرية. يفوّت العراق على نفسه فرصة تجميع مياه الأمطار هذه وتخزينها، فتراها تُغرِق المجاري بدلاً من ذلك. في بغداد شوهدت صهاريج في نيسان / أبريل 2019 وهي تشفط المياه من بعض الأماكن وتفرغها في أماكن أخرى، ما يجعل إدارة المياه أشبه بالعبث. أعرب ناشطٌ عن أسفه على ذلك قائلاً: "تُستخدم تقنيات تجميع المياه في الغالب في بلدانٍ تعاني من ندرة المياه، أما نحن فنفتقر لهذه العقلية". ولإثبات هذه النقطة، وصف مسؤولٌ كبيرٌ مياهَ العواصف المطرية بأنها "لا تُذكر" على الرغم من شلّها الحياة في مدينة بغداد بأكملها.
زراعةٌ نَهِمَةٌ
وفيما يزعزع تغيّر المناخ الموارد المائية في العراق أكثر فأكثر، فإن قطاع الزراعة غيرَ الفعال يوصل هذه الموارد الى حافة الهاوية، فوفقاً لتقديرات منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو)، تستحوذ الزراعة على 80 بالمئة من إجماليّ استهلاك المياه في البلاد، ويذهب جزءٌ كبيرٌ من هذه المياه لري "المحاصيل الاستراتيجية" كالقمح والشعير، ما يعكس الجهود التي يبذلها العراق منذ عقودٍ لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء. يعود هذا المسعى إلى حملةٍ أطلقتها الدولة في الستينات، ولا يزال هدفَ الحكومة الأسمى حتى يومنا هذا.
غير أن العراق لا يزال متكلاً كلياً إذ يستورد ما يفوق إنتاجَه من القمح، ويشتري من الخارج ما بين ثلاثة إلى أربعة ملايين طنٍّ من القمح سنوياً بتكلفةٍ باهظةٍ من حيث المياه والمال. لا يمثل ناتج العراق الزراعي سوى 3 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي، بيْد أن الدولة تنفق نحو5 مليارات دولارٍ سنوياً – أو 2 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي – لاستيراد السلع الغذائية الأساسية للتعويض عن النقص المحلي. تشير التركيبة السكانية في هذا البلد إلى أن هذا النهم للاستيراد سيستمر على الأرجح، فقد تضاعف عدد سكان العراق بين عامي 1970 و1995، ثم تضاعف مجدداً ليبلغ 40 مليوناً اليوم، وهو مرشحٌ للزيادة المضطردة.
كما ستستمر عائدات الاستثمار، الضعيفة أساساً، في التراجع لأن الممارسات الزراعية تسمم التربة من خلال زيادة ملوحتها، وهي مشكلةٌ مرتبطةٌ باستخدام الطمي الغريني كسمادٍ، والإفراط في الري، وسوء تصريف المياه، والتبخر، وهو ما علّق عليه ناشطٌ وخبيرٌ في مجال المياه بقوله: "إن معاناة المزارعين مرتبطةٌ بالتقنيات التي يستخدمونها، إذ ما زالوا يلجؤون إلى نفس الأساليب التي كانت سائدةً منذ آلاف السنين." لكن ثمةَ فارقٌ كبيرٌ بين الأمس واليوم.
سيزداد سكان العراق بمعدلٍ مضطردٍ
في الماضي ساعد فيضان الأنهار الموسمي في غسل الأراضي من الملوحة، غير أن شبكةً معقدةً من الحواجز والسدود والخزانات جعلت هذه الدورات تختفي في منتصف القرن العشرين، ومنذ ذلك الحين يُقال إن العراق خسر أكثر من ثلث إجمالي المساحة المستخدمة حالياً للزراعة بسبب تملّح التربة، وقد تشهد ثلاثة أرباع الأراضي المروية المصيرَ نفسه. في ضواحي الفلوجة غرب بغداد أمست قطعة أرضٍ زراعيةٍ ملعباً لكرة القدم يلعب فيه الأطفال؛ لا على التراب، بل على قشرةٍ بيضاءَ شاحبةٍ، وفي ذي قار في الجنوب، يكثر الملح للحد الذي جعل العائلات الفقيرة تكسب قوت يومها من خلال جمعه للأغراض الصناعية.
وحتى لو ظل الهلال خصيباً، فإن غلات حبوبه منخفضةٌ للغاية، إذ يُنتج العراق القمح بمعدل طنين لكل هكتارٍ، أي نصف المتوسط السنوي العالمي وفقاً لأرقام البنك الدولي، والأسوأ من ذلك أن القيمة المالية لمحصول القمح متدنيةٌ للغاية، فكل المحاصيل الأخرى تقريباً تدر إيراداتٍ أكثر باستخدام جزءٍ صغيرٍ من الأرض؛ فعلى سبيل المثال؛ تدرّ الطماطمُ ضعف المال باستخدام واحدٍ من خمسين من مساحة الأرض. ومثلها مثل النخيل، تتحمل الطماطم المياه المالحة، وبالتالي فهي أكثر مقاومةً للملوحة المتزايدة من المحاصيل الأخرى؛ غير أن القمح والشعير - ابنَ عمه الأكثرَ جلداً - يظلان محورَ تركيز القطاع الزراعي في العراق.
لم تمرَّ هذه التناقضات دون أن يلاحظها أحدٌ، بل على العكس من ذلك، فقد عبّر عددٌ كبيرٌ من الخبراء العراقيين والدوليين بوضوحٍ عن ضرورة إجراء إصلاحاتٍ منطقيةٍ كوضع عداداتٍ لقياس استهلاك المياه، والتحول من الري بالغمر إلى مد شبكات أنابيب تحت الأرض، والري بالتقطير، وذلك بغية الحد من التبخر، وإحلال شبكة تصريفٍ مناسبةٍ للأراضي المروية والمهددة بالملوحة، والتي تمثل 75 بالمئة من هذه الأراضي.
غلات الحبوب في الهلال الخصيب منخفضةٌ للغاية
غير أن هذه التدابير لم تُطبق حتى الآن لعدة أسبابٍ، وأولها نفسيٌ ومتجذرٌ في التراث الزراعي الخالد في البلاد؛ فقد دأب العراقيون على النظر إلى بلدهم على أنه فريدٌ بخصوبته؛ فكيف لأول سلّة خبزٍ للبشرية ألا تكون مكتفيةً ذاتياً؟ كيف يمكن لدجلة والفرات أن يقصّرا في إطعام أبنائهما؟ وقد رددت الأيديولوجية البعثية صدى هذه الفكرة وضخّمتها، فحوّلت قوة الماء إلى عنصرٍ أساسيٍّ من عناصر الهوية الوطنية والسيادة.
ومن الأعراض المدمرة والغريبة لهذا الإيمان بخصوبة العراق اللامتناهية هو ما نشهده من قضم المجتمع للأراضي الصالحة للزراعة، ففي جميع أنحاء بغداد يدمّر الأفرادُ والشركاتُ البساتينَ والمشاتل لتشييد الوحدات السكنية ومنتجعات الترفيه بل وجامعةٍ طبيةٍ خاصةٍ كبيرةٍ، كما أُحرقت على أطراف المدينة بساتينٌ من النخيل بأكملها على أيدي مجهولين، فتركوا وراءهم غابةً من جذوعٍ متفحمةٍ تنذر بتشييد المباني مكانها، كما أن نفس المسؤولين الذين يلقون المواعظ عن ضرورة الاكتفاء الذاتي من الغذاء يتربّحون من عمليات التدمير إما بتمريرهم هذه المشاريع أو بالاستثمار فيها.
أما العامل الثاني فمتجذرٌ في مؤسسات الدولة، فما زال العراق المعاصر يحتفظ حتى يومنا هذا بإرثٍ محيرٍ وغريبٍ من الدولة التي كانت قائمةً في بلاد ما بين النهرين، والتي دأبتِ الدولة البعثية المهيمنة على محاكاتها، حيث استحوذتِ السلطات المركزية على الأراضي، وسيطرت على الانتاج، واشترتِ المحاصيل، ووزعتِ الغذاء على السكان، وهو ما يفسر سبب بقاء معظم المزارعين معدمين، ويزرعون قطعاً صغيرةً من الأرض، ويعتمدون كثيراً على الدولة للتّزود بالبذور والمبيدات واللوازم الأخرى رديئة النوعية، كما يستخدمون المياه شبه المجانية والمدعومة من الحكومة التي تبيعهم المياه مقابل 0,0002 دولار للمتر المكعب، وهو أحد أبخس الأسعار في العالم. وفي المقابل، تحتفظ بغداد بالحق في شراء جميع المحاصيل الاستراتيجية بأسعارٍ متدنيةٍ وثابتةٍ.
إن هذا النظام بطبيعته مليءٌ بالروتين الذي يُنفر الاستثمارات لأن المشاريع التي تتحقق غالباً ما تكون استعراضيةً ورمزيةً، مثل مشروعٍ ممولٍ من السعودية لزراعة القمح في الصحراء عن طريق ضخّ المياه الجوفية المتناقصة في العراق إلى مرشاتٍ محوريةٍ.
وفي هذه الأثناء يظل جني المكاسب السريعة الشغل الشاغل للطبقة الحاكمة، فتَحُول دون أية إمكانيةٍ للتفكير بالمستقبل، فرغم إنجاز بغداد لتقريرٍ بعنوان "استراتيجية موارد المياه والأراضي" في عام 2015، ظلّ التقريرُ حبيس الأدراج بعد أن كلّف الدولة 36 مليون يورو. قال مسؤولٌ كبيرٌ مشاركٌ في الدراسة: "كان ذلك التقرير إنجازاً كبيراً، لكنه لم يظهر للعلن ولم ينفذ بعدُ. لم تحفز كل كوارثنا أية بادرة اهتمامٍ من الحكومة". كما ردد ناشطٌ هذه النقطة بقوله: "في أربع سنواتٍ لم نتمكن حتى من الحصول على مسودة هذا التقرير المطلي بالذهب، ومنذ ذلك الحين حدثته شركةٌ أخرى لكن نسخته الجديدة لم تر النور بعد".
غير أن فساد النخبة الحاكمة وبلادتها لا يفسران العامل الثالث، وهو بالغ الأهمية ويشترك فيه غالبية العراقيين. إن المجتمع العراقي مترابطٌ بواسطة عقدٍ اجتماعيٍّ أعوج يشعر المواطنون فيه بأنهم يستحقون نصيبهم من ثروات البلاد، وهو حقٌّ مشروعٌ يُترجَم أيضاً إلى فسادٍ ووظائفَ حكوميةٍ غير منتِجةٍ وخدماتٍ عامةٍ مجانيةٍ، وبالتالي يحق لأي عراقيٍّ أياً كان دخله أن يستفيد من نظام التوزيع العام، وهو برنامجٌ لتوزيع الطعام وُضع عام 1991 بغية الحد من تأثير الحظر التجاري الدولي المُدمِّر الذي رُفع عام 2003 بُعيد الاحتلال الأمريكي للعراق. هذا الترتيب الذي عفا عليه الزمن، والذي لا يميز بين الفقراء والأغنياء، يكلف الدولة نحو 5 مليارات دولارٍ سنوياً من الإمدادات المستوردة.
تمثل الممارسات الزراعية الفاشلة التي أكل عليها الدهر وشرب مكوناً أساسياً من نظام المحسوبية هذا، فهي تعين ما يقرب من عشرة ملايين من سكان الأرياف - أي ربع السكان - ممن يعتمدون على الزراعة لكسب لقمة العيش، ويعانون من ارتفاع معدلات الفقر والبطالة ويهددون بالزحف على المدن التي ترزح أساساً تحت الزيادة السكانية الناتجة عن الهجرة المتواصلة. هؤلاء المزارعون هم الأقل حظاً بثروات العراق النفطية، وبالمقابل ينعمون بحصة الأسد من المياه ليهدروها كيف شاءوا. كما يقع اللوم في ذلك على قطاعاتٍ اقتصاديةٍ وفئاتٍ أخرى من المجتمع.
صنابير ومجاري مفتوحةٌ
يكاد هدر المياه يطال كل شبرٍ في العراق، وفي ذلك قال موظفٌ في منظمة اليونيسف يقيم في بغداد إن المواطن العادي يستهلك يومياً 392 ليتراً من المياه لأغراضه المنزلية وحدها، أي ضعف المتوسط العالمي البالغ 200 ليتر. تكلف هذه الكمية الهائلة السكان سعراً زهيداً للغاية، أي نحو 1,4$ سنوياً، هذا على افتراض أنهم يدفعون فواتير المياه، وهو نادراً ما يحدث. وبالنظر إلى هذا السعر البخس، لا يتردد كثيرٌ من أصحاب المنازل في ترك صنابير المياه مفتوحةً لغمر حدائقهم حتى في ساعات الحر الشديد خلال النهار.
كما أن لصناعة النفط نصيباً كبيراً من المسؤولية عن هدر المياه، فالذهب الأزرق يُستبدل بالذهب الأسود حرفياً، إذ يُستبدل كل برميلٍ من النفط المستخرج ببرميلٍ ونصفٍ من الماء يُضخ قي حقل النفط للحفاظ على مستوى الضغط وبالتالي استمرار الانتاج؛ وقد كانت الآثار الدقيقة المترتبة على هذه الممارسات موضع نقاشٍ. يقدر مركز أبحاثٍ عراقيٌّ متخصصٌ في شؤون الطاقة أن صناعة النفط تحتاج حالياً نحو 400 مليون مترٍ مكعبٍ من المياه سنوياً، وهو رقمٌ متواضعٌ مقارنةً بالموارد الإجمالية في البلاد. رفض مسؤولٌ كبيرٌ الإقرار بهذه المسألة قائلاً بنبرةٍ من الغرور: "تستخدم شركات النفط كميةً ضئيلةً من المياه ولا تسحب المياه من الأنهار، بل تستخدم مخلفات المياه المستخدمة في الزراعة بالدرجة الأولى، وبالتالي تفوق فائدة هذه العملية أي ضررٍ محتملٍ بأشواطٍ".
غير أن الصورة الكاملة أكثرُ تعقيداً، ففي عام 2010 شهدت أقاليم الجنوب الغنيةُ بالنفط نقصاً في المياه قُدّر بنحو 400 مليون مترٍ مكعبٍ، أي ما يعادل كمية المياه التي كانت تُضخُّ في جوف الأرض حينذاك، وثمة أدلةٌ تلقي بظلالٍ من الشك على الزعم بأن شركات النفط تعتمد على مخلفات الزراعة من المياه بالدرجة الأولى؛ وفي هذا قال عاملٌ صحيٌ في بغداد إن مقاولي شركات النفط يملؤون صهاريجهم من أقرب مصدرٍ من المياه بغية الحد من التكاليف وزيادة الربح؛ غير أن التكتم الشديد ما يزال يلف هذا الموضوع، وقال ناشطٌ محذراً: “هذا الموضوع خطيرٌ للغاية، فشركات النفط الكبرى تشتري المياه من شركاتٍ يترأسها أناسٌ على صلةٍ بالميليشيات".
يكاد هدر المياه يطال جميع أنحاء العراق
والحلول الواضحة، مثل جلب المياه من البحر، ستتطلب استثماراتٍ تُؤجَّل المرة تلو الأخرى، ما يعكس عقليةً سائدةً ترى بأن الماء يجري مجاناً ولا ينضب، على عكس النفط الذي يُعترف بأن استغلاله مكلفٌ وذو قيمةٍ كبيرةٍ وكميةٍ محدودةٍ. ومن الجدير بالذكر أن وزارة النفط حظيت في عام 2018 بميزانيةٍ تقارب 50 ضعف ميزانية وزارة الموارد المائية المتداعية.
وقد ورثتِ الأخيرة؛ التي كانت تُعرف باسم وزارة الري حتى عام 2003؛ بنيةً تحتيةً واسعةً شُيدت للسيطرة على الفيضانات ولأغراض الري في بلدٍ أَهمل كل جوانب إدارة المياه الأخرى. لا تمتلك هذه المؤسسة سوى الحد الأدنى من القدرة على جمع البيانات والتنبؤ بالمستقبل، ما يقوض بدوره إدارتها للسدود والخزانات والقنوات؛ كما أن الهياكل الإدارية فوضويةٌ بنفس القدر، فقد تذمر خبيرٌ من جنوب العراق من أن أية مبادرةٍ متعلقةٍ بالمياه قد تواجه تدخلاتٍ من وزارات النقل، والطرق والجسور، والمالية، وغيرها.
وقد أدت هذه العيوب إلى جعل شبكة مياه الشرب في العراق واحدةً من بين أسوأ الشبكات العالم، فما يقدر بثلثي مياه الشرب التي تُضخ عبر شبكة المياه تتسرب قبل أن تصل إلى المستهلكين. يقع جزءٌ من اللوم في ذلك على العقوبات التي كانت قائمةً في عهد صدام حسين، ففي التسعينات، واجه العراق مصاعب في استيراد الأنابيب التي رأت فيها لجنة العقوبات في الأمم المتحدة - التي تهيمن عليها الولايات المتحدة وتسيسها وفقاً لمصالحها - تهديداً عسكرياً محتملاً. أدت هذه العزلة إلى مفاقمة عقودٍ من ضَعف الاستثمار الذي سبق العقوبات واستمر منذ ذلك الحين، فوفقاً للبنك الدولي، تُعالَج مياه الصرف الصحي في 14 مركزاً حضرياً فحسب من بين المراكز الحضرية البالغ عددها 252 في العراق.
وبذا يمثل العراق حالةً من التسمم الذاتي الجمعي على نطاقٍ مذهلٍ، ففي بغداد تسحب صهاريجٌ تتبع للقطاع الخاص المياهَ العادمة من فتحات المجاري لتبيعها كأسمدةٍ، وفِي كل مكانٍ تقريباً، تُرمى مياه الصرف الصحي في الأنهار، ما يزيد من ملوحتها من بين أشكال التلوث الأخرى. وفي أقصى الجنوب، تجعل مستوياتُ الملوحة المياه غير صالحةٍ للشرب ولا للغسيل ولا لأي شكلٍ من أشكال الزراعة. كما أن المياه المالحة تسبب تآكل وتلف المضخات ومحطات التنقية وأنابيب التوزيع.
على مدى آلاف السنين عملت فيضانات نهرَي دجلة والفرات على تنظيف البلاد، لكنها اليوم تركز الأوساخ وتعيدها إلى النظام البيئي. "لقد باتت كل أنهار العراق عليلةً. والجميع مسؤولٌ عن ذلك بدءاً من أعلى موظفٍ وحتى أبسطِ مواطنٍ"، هذا ما قاله لنا بحسرةٍ خبيرٌ عراقيٌّ في تلوث المياه، وأردف: "في البصرة، لم تعُدِ الأنهار أنهاراً، بل خزاناتِ صرفٍ صحيٍّ متنقلةً".
ونتيجةً لذلك تفشت أمراض التيفوئيد والزحار والتهاب الكبد وغيرها من الأمراض المنقولة عن طريق المياه في جميع أنحاء البلاد. في منتصف عام 2018، استقبلتِ المستشفيات في البصرة أكثر من 100 ألف حالة تسممٍ بالمياه؛ وفي هذا قال طبيبٌ عراقيٌّ من أبناء البصرة مختصٌّ بالأوبئة: "إننا نسبح في الكوليرا. ذات مرةٍ اتصلتْ بي وزارة الصحة لإبداء رأيي في الأزمة، لكن كل ما أرادوا سماعه هو دعم نظريات المؤامرة حول التسميم المقصود للمياه". إن جنون الارتياب المرتبط بالمياه ينتشر بالفعل، وأفضل ما يعكس ذلك هو عادةٌ غير مألوفةٍ طورتها الطبقة الوسطى، فبدلاً من طلب جالونات المياه الصالحة للشرب للمنزل، يأخذ أفراد هذه الطبقة - وحتى كبار السن منهم - الزجاجاتِ الكبيرةَ إلى نقاط التعبئة التي تبدو أشبه بمحطات الوقود، وهي نقاطٌ لا يكون ماؤها أنظف بالضرورة، لكنه على الأقل يوفر وهماً بالتحكم بالجودة.
* * *
وقد راحتِ التوترات الاجتماعية تتفاقم في موازاة شح المياه وتلوثها، ففي أقصى الجنوب نزل السكان بغضبٍ إلى الشوارع؛ فيما يتهم المسؤولون بدورهم حكومةَ إقليم كردستان بتخزين المياه لسد النقص لديها؛ أما في وسط العراق فيتهم المزارعون أولئك في منطقة المنبع بأنهم يستهلكون أكثر من حصتهم المشروعة. وفي بيئةٍ قبليةٍ للغاية، يمكن أن تتطور الخلافاتُ الصغيرةُ بسهولةٍ إلى صراعٍ خطيرٍ. وبعبارةٍ أخرى يمزق الإجهاد المائي النسيجَ المجتمعيَّ الذي يكافح من أجل إعادة توحيد نفسه.
ظاهرياً، يبدو التحدي الذي يواجه الحكومة العراقية بسيطاً، إذ يمكن حلُّ معظم هذه المشاكل من خلال وضع السياسة العامة الأساسية، غيرَ أن الطبقة الحاكمة لم تُبدِ أيَّ اهتمامٍ بأيِّ شيءٍ سوى البحث عن كبش فداءٍ وحلولٍ سحريةٍ، وقد ردد تقريرٌ صادرٌ عن مؤسسةٍ بحثيةٍ محليةٍ صدى هذه الحلول السحرية، وضغط من أجل اتباع واحدٍ من حلّين: يجب على العراق إما التوجه نحو التكنولوجيا لإحداث هطول أمطارٍ اصطناعي، أو جر جبلٍ جليديٍّ كاملٍ من القطب الجنوبي إلى العراق. وعلى الرغم من كثرة النصائح السديدة، تكشف هذه الأوهام ميل العراق إلى اللجوء إلى أضغاث الأحلام في مواجهة التقصير الذي بات يهدد حياة العراقيين.
ينتقد عامة المواطنين الحكومةَ ويعكسون أسوأ ميولها في آن معاً؛ فموجاتُ الجفاف والفيضانات والأوبئة تثير موجةَ غضبٍ قصيرةَ الأجل سرعان ما تنطفئ برغبةٍ جامحةٍ في التعامل مع هذه المشاكل على أنها عابرةٌ. إن أزمة المسكوف التي وقعت في عام 2018، عندما نفقت ملايين أسماك الشبوط من مرضٍ شديد العدوى، تقدم مثالاً ممتازاً على حالة الإنكار تلك، فعلى الرغم من مشاهد المذبحة المزعجة، ارتفع الاستهلاك بمجرد عودة الأسماك إلى السوق، وذلك قبل تمكن أيٍّ من العلماء من تأكيد صلاحيتها للأكل من عدمها.
الماء كالأكسجين، لا بديلَ له
لا يمكن لهذه العقليات أن تتغير بين ليلة وضحاها على الرغم من الجهود المتعاظمة لدق ناقوس الخطر؛ فحين أقيمت فعاليةٌ لرفع الوعي في جامعة الكوت جنوب شرق بغداد، غادر الطلاب بمجرد تسلمهم شهادات الحضور، دون مشاهدة أيٍّ من العروض التقديمية. كما أعربت شاعرةٌ عراقيةٌ مسنةٌ انزوت عن العالم في منزلها عن أسفها لهذه النزعة نحو الفردانية قصيرة النظر بقولها: "إن حراثة الأرض مثلها مثل تربية الطفل؛ فما فائدة بلدٍ يسمى العراق إذا أهمله أهله ولم يهتموا إلا بأنفسهم؟"
غير أن الوعي ينتشر سواءً داخل مجتمعٍ صغيرٍ من النشطاء لكنه يكبر يوماً بعد يوم، أو في أوساطٍ أقل وضوحاً. وصفت امرأةٌ متدينةٌ في منتصف العمر تطورها: "للنبي مقولةٌ لم ترُق لي في بادئ الأمر: "لا تسرفوا في الماء ولو كنتم على نهرٍ جارٍ." لكني أدركتُ بعد حينٍ أننا نتسبب بأذىً بالغٍ، وأن التغيير لا بدّ أن يبدأ بنا نحن." ومن بين التدابير البسيطة التي انتَهَجَتها هذه السيدة أنها جعلت في حديقتها حفراً صغيرةً تصنع فيها السماد العضوي طبقاً لبعض التقنيات التي طالعتها على الانترنت.
الماء كالأكسجين، لا بديلَ له، وكل شيءٍ آخر تقريباً - بدءاً بالنفط - يمكن استبداله ببدائل؛ وسواءً تعاملنا مع الماء كسلعةٍ أو كخدمةٍ عامةٍ أو كحقٍ، فإن الماء يظلٌ شرطاً أساسياً من شروط البقاء على قيد الحياة، فالمجتمعات تُبنى بالماء أكثر مما تُبنى بالطوب والطين، والعراق يدرك ذلك أكثر من أي بلدٍ آخر. لقد وُلدت بلادُ ما بين النهرين القديمةُ من هذه النعمة، ولن يُكتب للعراقِ الحديثِ الحياةُ إلا إذا تذكر احترام هذا الحق الطبيعي.
5 آب / أغسطس 2019
بيتر هارلينغ هو مؤسس ومدير شبكة سينابس
الرسومات التوضيحية: بيير مورتييه "موقع الجنة الأرضية" بواسطة ويكيبيديا / المجال العام؛ جسر بغداد، ميناء البصرة، رصيف الموارد المحلية العمارة، قناطر الهندية، فيضانات الفرات من السير جون بي هيويت تقرير لمجلس الجيش عن بلاد ما بين النهرين من قبل مكتبة قطر الرقمية / مرخص بترخيص حكومي مفتوح؛ أساطير بابل وآشور بواسطة كيلي - جامعة تورنتو عبر فليكر / المجال العام؛ خرائط مصممة لسيانبس بواسطة روزالي بيرتر / مرخصة من قبل المشاع الإبداعي.