تجميع الحطام

كيف تغيّر المجتمع السوري

غيّرت الحرب السورية شكل البلاد على نحو مدمّر وخفيّ في الآن نفسه. فبينما تتجه عدّة تطوّرات نحو الأسوأ، ثمّة تطوّرات أخرى تبعث على التفاؤل الحذر. ذلك أن السوريين أظهروا براعة لا تنضب في التكيّف مع كلّ مرحلة من مراحل صراعٍ مريع، منقذين بذلك ما تبقّى من الكرامة والتعاضد والحيوية وسط ظروف كابوسية.

لقد فعلوا ذلك، على نحو عام، بأنفسهم، مواجهين بذلك تغيّرات يتجاهلها عمليّاً كلّ مَن يدّعون دعمهم أو تمثيلهم. إذ جرى استبعاد هذه التغيّرات تماماً من محادثات السلام وسياسات القوة، بينما نادراً ما أخذتها جهود الإغاثة بعين الاعتبار. كما يبدو أن هذه التغيّرات تتبخّر أمام أعين الأعداد المتزايدة من الغرباء القادرين على زيارة سوريا، والذين غالباً ما يلاحظون أن الأمور «طبيعية» أكثر مما كانوا يتصوّرون: فالمقاهي الدمشقية مليئة بالناس، والمتاجر عادت لتفتح أبوابها في حلب، بينما يُهَمهِم مسؤولون من جنسيات متنوعة حول خطط مستقبلية مفرطة بالتفاؤل.

وبالفعل، فقد أعيد تشكيل المجتمع السوري على نحو سيستغرق إدراكه بعض الوقت. ولهذا، تبقى إعادة التقييم المعمّقة أمراً ضرورياً إذا ما أردنا فهم الوقائع السورية الأكثر جوهريّةً وهي تستمر وتشهد تحوّلات عدّة. ولعلّ حكايات السوريين العاديين هي الوسيلة الأفضل لتتبّع مدى هذه التغيّرات.

لا بلاد للشبّان

يمكن القول أن هلاك شريحة الذكور من سكان سوريا هو التحول الأبرز في النسيج الاجتماعي للبلاد. ففي حين تسبّب الموت والإعاقة والاختفاء والتشريد القسريان بإبادة جيل كامل من الرجال، انغمس من تبقّوا في منظومة عنف وفساد متمحورة حول فصائل مسلحة.

تتيح إحدى العائلات العلوية المقيمة في قرية ساحلية إطلالةً على الخراب الذي حل بذكور سوريا، حتى في الأراضي التي بقيت تحت سيطرة الحكومة. من بين ثلاثة أشقاء، قُتل واحدٌ في معركة، وأصيب آخر بالشلل نتيجة رصاصة في العمود الفقري، بينما يعيش الثالث – وهو موظف حكومي في الثلاثين من عمره وبراتب زهيد – ذعر التجنيد الإلزامي. تلخّص أمّهم ضائقتها بالقول:

تعبنا من الحرب. قدّمت شهيد، والتاني نص ميت، وممكن ياخدوا الصغير بأي لحظة. انشالله تخلص هالحرب، المقابر صارت مليانة شباب.

تُعَدّ حكاية هذه العائلة نمطية في قريتها ذات الـ3,000 نسمة التي تعكس، بدورها، واقعاً تعرفه العديد من المجتمعات المحليّة المرتبطة اقتصادياً واجتماعياً بالجيش والأجهزة الأمنية. ووفقاً لتقديرات العائلة نفسها، المطابِقة لمعلومات قدّمها أحد مديري المنظمات غير الحكومية العاملة في المنطقة، فقد لقي 80 رجلاً من رجال القرية مصرعهم، وأُصيب 130 – أي ما يعادل ثلث الذكور الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و50 عاماً. أما الثلثان المتبقيّان فقد ابتلعهم الجيش أو المليشيات.

أدى العنف الذي قضم الكثير من الأرواح إلى توليد مصادر دخل لا غنى عنها. ففي هذه الأسرة تحديداً، يعتمد الشقيق المعوق على راتب تقاعده العسكري البالغ حوالي 60 دولار في الشهر. (جميع الأرقام بالدولار تقريبية، بسعر صرف قدره 500 ليرة سورية مقابل الدولار الواحد)، فيما تتلقى أرملة شقيقه تعويضاً يعادل 35 دولار في الشهر، توزّعه الميليشيا التي كان يقاتل من أجلها حينما سقط في المع ركة. غير أن هذه الأجور أقلّ من كافية، ويتعيّن على أفراد الأسرة الآخرين تحمّل أعباء كبيرة لتأمين مقومات العيش. يقول الأب الستيني بيأس – وهو نفسه عسكري سابق – «ابن شهيد والتاني مكسور، أنا وابني المعافى منشتغل ليل نهار لنطعمي العيلة».

أدى العنف الذي قضم الكثير من الأرواح إلى توليد مصادر دخل لا غنى عنها


أزمة شبيهة باتت اليوم متجذّرة في مناطق كانت تسيطر عليها سابقاً فصائل المعارضة واستعادتها القوات الموالية للأسد. ففي حين سقط العديد من الشباب أو اضطروا للفرار، يواجه البقية حوافز قوية للانخراط في صفوف القوات الموالية للنظام. يتيح القيام بذلك فرصة لحماية النفس وكسب لقمة العيش في الوقت نفسه، كما يوفر بديلا عن الالتحاق بالجيش النظامي الذي يجمع بين بؤس الأجر (الأجرالزهيد) وخطر الموت على الجبهات البعيدة.

يشكّل النصف الشرقي من مدينة حلب مثالاً على هذا التوجّه. فبعد سنوات من الحصار والقصف الحكومي، تُركت المنطقة تعاني من تدهور الخدمات ودمار الاقتصاد وانعدام الأمن الناجم عن نشاط الميليشيات غير المنظم. «إذا بدك تحمي حالك وعيلتك، انضم لميليشيا»، يقول رجل متوسط العمر في حي الجزماتي: «المنطقة موبوءة بجرايم ميليشيات الدفاع الوطني. كل مجموعة بتسيطر على منطقة وأحياناً بيتقاتلوا ع الغنايم. لازم أصحاب المحلات يدفعوا لحتى يحموهن. في واحد رفض، فقاموا حرقوله محله».

ي ضوء ذلك يبدو حمل السلاح إغراءً طبيعياً. يشرح رجل في حي مساكن هنانو هذه الديناميكية:

«الشباب اللي ضلوا بأحياء حلب الشرقية انضموا للميليشيات، لأنو عندها حلول لأسوأ شي عم نواجهه. المقاتلين عندهن راتب منيح هنيك، وعندهن امتيازات تانية كمان، مثلاً أمبيرات أكتر من غيرهن، لأنوموزعين الكهربا بينزلولهن السعر إذا عرفوا إنهن عم يتعاملوا مع ميليشاوي».

وأوضح ساكن آخر من المنطقة نفسها أنه تمكن هو وأسرته من تدبير أمورهم بفضل انضمام اثنين من أبنائه إلى لواء الباقر المدعوم إيرانياً – والذي لا يوفر رواتب شهرية فحسب، بل أيضاً فرصاً لتأمين الأدوات المنزلية عن طريق النهب.

شلّت الحرب جيل الشباب نفسه الذي قاد انتفاضة سوريا

في جميع أنحاء سوريا، بالكاد تتوفر بدائل للشباب الراغبين في تجنّب التجنيد – سواء في الجيش النظامي أو الميليشيات. معظم الذين يستطيعون تحمّل تكاليف مغادرة البلاد يفعلون ذلك، بينما يستفيد آخرون من التأجيل الممنوح لطلاب الجامعات، في حين يعفى البعض الآخر لكونهم الذكر الوحيد من جيلهم في العائلة. وقد يدفع آخرون رشاوى باهظة لتجنب السَّوق، أو يحبسون أنفسهم في منازلهم كي لا يُقبَض عليهم، ما يجعلهم غير مرئيين للجيش والمجتمع الأوسع. يتحمّل البعض العديد من هذه المحن، ما يبقيهم في حالة من اللايقين المستمرّ، نظراً للطابع المؤقّت والمُفزع لهذه الحلول. يروي رجل في أواخر الثلاثينات من عمره تجربته بعد أن استعادت القوات الموالية مسقط رأسه في ضواحي دمشق في عام 2016:

«كان عندي خيارين: يا بدفع 3-4 آلاف دولار لحتى أقدر أطلع تهريب ع تركيا أو ع لبنان، يا بنضم للجيش أو لشي ميليشيا. كان في حواليي تسع فصائل بمدينتي، والمسؤولين عنهن شباب إلهن علاقات مع الأجهزة الأمنية. بالنسبة للشباب اللي ما بدهن يحملوا سلاح، كان فيه اتفاق ضمني بيخلي قائد أي فصيل يسجلك عنده ويتركك ببساطة تعيش حياتك. بس بالمقابل، لازم تدفع لهالقائد رشوة دفعة وحدة بين 250,000 لـ1,000,000 ليرة سورية [500-2,000 دولار] وكمان راتبك الشهري تبع الميليشيا وأحياناً مبلغ إضافي ممكن يوصل لـ50,000 ليرة [100 دولار].

«بحالتي كانت تكاليف التهريب غالية كتير – وفوق هيك عندي مرا وولاد هون. لهيك دفعت أكتر من 500 ألف ليرة [1,000 دولار] لتزبيط الموضوع، بس لسوء حظي الفصيل اللي اتفقت معه انحلّ وخسرت كل مصاريّي وحرّيتي بالتنقل. وهلأ أنا محبوس ببيتي، ومعتمد على مصاري مصمّدها وعلى مساعدات من الأهل. وما بعرف شو أعمل».

بعبارة أخرى، فحتى الفئة المتضائلة من الشبان الذين بقوا على قيد الحياة في سوريا سيحملون طويلاً ندوبهم الخاصة – إن لم يكن بسبب صدمة الانضمام إلى الميليشيات فبسبب الإجراءات المستميتة التي اتخذوها لتجنب ذلك.

إن دمار القوى العاملة من الذكور السوريين سيعيق حتماً جهود إعادة إحياء اقتصاد البلاد. يقول أحد الصناعيين في حلب ببساطة: «بحكي مع صحاب المعامل فبيقولولي بدن يرجعوا يفتحوا، بس مافي عمال رجال. ولما بيلاقوا حدا، بيجوا المخابرات والشبيحة بيعتقلوهن وبياخدوا مصاري من صحاب المعامل لأنو وظفوهن أصلاً». ومع عدم وجود عوائد كبيرة في الأفق أمام الصناعات المحلية، فإن هذا المأزق الاقتصادي سوف يحتاج سنوات لتجاوزه.

من الناحية السياسية، شلّت الحرب جيل الشباب نفسه الذي قاد انتفاضة سوريا. فالذين بقوا منهم في سوريا أُجبر أغلبهم على الخضوع، أو تم بالفعل تجنيدهم قسراً في أجهزة السلطة ذاتها التي ثاروا ضدها أساساً. والمحصلة مفارقة قاتمة: على الرغم من أن المشاكل التي أدت إلى انتفاضة 2011 في سوريا قد تفاقمت، إلا أن المجتمع تعرّض للسحق إلى حدّ يكاد يضمن استحالة التأسيس لأي حراك إصلاحي واسع النطاق ضمن أي جيل قادم.

اقتصاد أكل البشر

ثمة تحوّل أساسي ثانٍ يغذّي وتغذّيه الظروف المخيّبة التي تواجه شباب سوريا: تفكّك الاقتصاد الإنتاجي في البلاد، واستبداله باقتصاد «غابة» ممنهج يزداد فيه اعتماد الفئات الفقيرة من المجتمع السوري على افتراس بعضها البعض من أجل البقاء.

ثمة تحوّل أساسي ثانٍ يغذّي وتغذّيه الظروف المخيّبة التي تواجه شباب سوريا: تفكّك الاقتصاد الإنتاجي في البلاد، واستبداله باقتصاد «غابة» ممنهج يزداد فيه اعتماد الفئات الفقيرة من المجتمع السوري على افتراس بعضها البعض من أجل البقاء.

التمظهر الأكثر وضوحاً لهذا الاقتصاد الجديد هو ثقافة النهب، المتطورة والمتأصلة لدرجة تدوير العامية السورية لمصطلح جديد – «التعفيش» – لوصف الممارسة الحربية التي تتخطى سرقة «العفش» نحو حدود قصوى كتجريد المنازل والشوارع والمعامل من مواد التمديدات الصحية والكهربائية.

ثقافة النهب متطورة لدرجة تدوير العامية السورية لمصطلح جديد لوصفها

ثمة تحوّل أساسي ثانٍ يغذّي وتغذّيه الظروف المخيّبة التي تواجه شباب سوريا: تفكّك الاقتصاد الإنتاجي في البلاد، واستبداله باقتصاد «غابة» ممنهج يزداد فيه اعتماد الفئات الفقيرة من المجتمع السوري على افتراس بعضها البعض من أجل البقاء.

التمظهر الأكثر وضوحاً لهذا الاقتصاد الجديد هو ثقافة النهب، المتطورة والمتأصلة لدرجة تدوير العامية السورية لمصطلح جديد – «التعفيش» – لوصف الممارسة الحربية التي تتخطى سرقة «العفش» نحو حدود قصوى كتجريد المنازل والشوارع والمعامل من مواد التمديدات الصحية والكهربائية.

هناك مثال مستجدّ وشديد التعبير عن هذا النهب المنهجي، حدث مع عودة القوات الموالية للأسد في نيسان عام 2018 إلى مخيم اليرموك، وهو مخيم فلسطيني مترامي الأطراف جنوب دمشق. لقد أدى سقوط اليرموك إلى موجة تعفيش ظلت سارية حتى حزيران، تاركة آثاراً على المشهد العمراني ربما لا يمكن محوه. ووصل حجم الافتراس إلى درجة أن بعض الميليشيويين الموالين للأسد عبّروا بأنفسهم عن صدمتهم، لأسباب ليس أقلّها استباحة أملاكهم من قبل فصائل أخرى. «شفت جنود بالبدلة الرسمية بيستعملوا دبابة للجيش لسحب الكابلات من تحت ست أمتار تحت الأرض»، يقول مقاتل في فصيل فلسطيني موالٍ كان يسعى جاهداً لاستعادة ممتلكاته من شقته قبل نهبها. «شفت جنود من وحدات النخبة عم ينهبوا المستشفيات الخاصة والدوائر الحكومية. هاد ما بس نهب – هاد تخريب للبنية التحتية».

بعض السكان القانطين قاموا بتدمير ممتلكاتهم بأنفسهم لمنع المجموعات المسلحة من استغلالها. يوضح أحد هؤلاء الأفراد:

«رجعت ع شقتي بس لآخد الوراق الرسمية وكم قطعة دهب مخبايين. وبعدين كسرت عفش وغراض البيت لأني بديش يغتنوا على حسابي. كنت مستعد أحرق الشقة، بس مرتي وقفتني – ما كان بدها نضرّ بقية الشقق بالبناي».

لقد خلّفت هذه الآفة المنتشرة في جميع أنحاء سوريا اقتصادات جزئية قائمة بذاتها – من إعادة تدوير الأنقاض إلى انتشار أسواق التعفيش التي يشتري فيها الناس بضائع مستعملة مسروقة من أشقائهم السوريين. ولا يملك الكثيرون سوى هذا الخيار لاستبدال ممتلكاتهم الخاصة المسروقة. يشرح موظف حكومي عودته إلى مدينته دير الزور بعد عامين من النزوح في دمشق:

«بتشرين الأول 2017، طلبوا مني أرجع على وظيفتي بالدولة بدير الزور. انصدمت لما لقيت البيت مهدّم. كان كل شي فيه مسروق. ساعدني أخوي ألاقي شقة صغيرة بغرفة نوم وحدة، واشترى لي شوية أغراض مسروقة لحتى أفرشها. أهالي الدير خسروا مرتين: أول شي لما انسرقت منهم لوازم المطبخ والتخوت وكل شي – وبعدها حسّينا أنو خسرنا مرة تانية ونحن عم نشتري عفش مسروق».

بأكثر من طريقة، كان على النازحين السوريين الساعين للعودة إلى ديارهم خوض عملية إعادة شراء معقدة ومكلفة ليعودوا إلى أحيائهم. فإلى جانب التكاليف المباشرة للأضرار والسرقة، يواجه هؤلاء أنواعاً من السلب مثل الرسوم غير الرسمية عند نقاط التفتيش ومبالغ الابتزاز التي تفرضها مختلف فروع الدولة حتى على الخدمات الأساسية غير الموجودة أصلاً. يقول تاجر نسيج كهل في مدينة حلب القديمة، مستهجناً هذه التكاليف:

«والله دفعت 3 ملايين ليرة [6,000 دولار] حتى أرجع أفتح محلي اللي راح. وفوق هيك، طلبت مني الجهات الحكومية أدفع فواتير المي والكهرباء وكمان ضريبة الدخل من الـ2013 للـ2017. حاولت قلهن أنه المحل كان مسكّر وأني لا استخدمت لا كهربا ولا مي، بس ما صار إلا ودفعت. وبعدها دفعت 7 ملايين [13,500 دولار] لأشتري منسوجات جديدة، لأنه اللي سرقوا المحل ما خلوا فيه شي.

يعني صرفت بالمحصلة 10 ملايين [20,000 دولار] لحتى أرجع أفتح المحل. بس اللي عم طالعه مربح باليوم [من 6 إلى 8 دولارات] يا دوب يغطي مصروف الأكل والكهربا والمي والضرايب. بس بضل تقطيع الوقت بالسوق أحسن من القعدة بالبيت والتفكير أكتر من اللازم لحتى يفقع قلب الواحد».

ناهيك عن أن السوريين يسحبون من مدّخراتهم الثمينة ليدفعوا للمسؤولين بغية الحصول على معلومات عن الأقارب المختفين مثلاً أو عن حالتهم على قوائم «المطلوبين» المنتشرة في البلاد. بالنسبة لمن يرغبون في التأكد من أنه لن يتم احتجازهم عند عبور الحدود إلى لبنان، يبلغ الرسم الحالي حوالي 10 دولارات – غالباً ما يتم دفعها لموظف في إدارة الهجرة والجوازات.

يتحول اقتصاد ضواري الحرب في سوريا، على نحو بطيء لكن مؤكد، إلى اقتصاد ضواري السلام

وبينما يرتبط كثير من اقتصاد الضواري في سوريا بالعنف مباشرة، إلا أن الحرب ولّدت عدداً لا يحصى من أشكال الافتراس الأكثر دهاءً، والتي ستستمر وتتطور لسنوات قادمة. يمتد «اقتصاد أكل البشر»، الذي يشمل كل من صار يعتمد على الابتزاز للترزّق، ليشمل مجموعة من المحامين ومسؤولي الأمن والموظفين الحكوميين الذين نصّبوا أنفسهم «سماسرة» في سوق الوثائق الرسمية كالولادة وشهادات الزواج والوفاة. لقد مرّ عدد لا يحصى من السوريين بأحداث محورية بينما كانوا في منطقة خارجة عن سيطرة الحكومة؛ ومن أجل تجنّب العذاب القانوني داخل سوريا وخارجها، غالباً ما اضطر هؤلاء لدفع مبالغ باهظة للوسطاء لتسهيل إجراءات الأوراق الرسمية. يشرح محامٍ مقيم في دمشق كيف غيرت هذه التجارة النامية مهنته:

«هالأيام حتى المحامين الكبار بمجالنا بيشتغلوا سماسرة وثائق. السمسار اللي عنده علاقات منيحة بيطالع من 30 لـ40 ألف ليرة [60 إلى 80 دولار] كل يوم؛ يعني تقريباً راتب شهر لموظف بالدولة معه شهادة جامعية. فإي في كتير موظفين بالدولة عم يستقيلوا من وظيفتهن ويشتغلوا كسماسرة، لحتى يربحوا مصاري أكتر. »

يعني هي تجارة نظامية، مو عمل خيري: السمسار بيقبض مصاري حتى من إخواته. الأسبوع الماضي، واحد من زملائي جاب لي صهره. سألته ليش جابه لعندي مع أنه هو فيه يظبط له كل الوراق، فخبرني أنه ما فيه ياخد مصاري من صهره، وأنه أنا فيني أقبض منه وبعدين منتقاسم المبلغ»

وتصبح ديناميات أكل البشر هذه أكثر فتكاً إذا ما عرفنا أنها تمتاز بصفة الاستدامة الذاتية. لقد ساهمت أشكال الافتراس المتعددة بهروب رؤوس الأموال والقوى العاملة خارج سوريا، تاركة وراءها بلداً تسكن أغلبه طبقة دنيا لا يزيد طموحها كثيراً عن مجرد الكفاف. وبدورها تدفع متطلبات البقاء على قيد الحياة أعداداً متزايدة من السوريين العاديين إلى حلقة مفرغة من صناعات افتراس البشر – فإن لم يكونوا مفترسين، سيكونون مستفيدي درجة ثانية من الافتراس، وذلك من خلال شراء أو تلقي السلع المنهوبة، والاعتماد على دخل الأقارب القائم على الابتزاز، وهلم جراً. بعبارة أخرى، يتحول اقتصاد ضواري الحرب في سوريا، على نحو بطيء لكن مؤكد، إلى اقتصاد ضواري السلام.

جدران الخوف والإعياء

ثمة تحول أقل بروزاً، لكنه ليس أقلّ عمقاً، يكمن في مدى اضطرار المجتمع السوري إلى الاستكانة النفسية بعد فترة من الصحوة الثورية. كما يتندر اليوم بعض السوريين، لقد تمكنت دمشق من إعادة إعمار شيء واحد فقط بنجاعة وسط الدمار اللامحدود: «جدار الخوف» الذي تميّز به النظام قبل عام 2011 وانهار مؤقتاً في بداية الثورة.

طبعاً يتعلق هذا التحول بعودة الدولة الأمنية السورية إلى مساحات شاسعة من البلاد كانت قد انسحبت منها بشكل مؤقت. لقد عادت المناطق التي كانت في يوم من الأيام مفعمة بالنشاط الثوري لتصبح تحت مراقبة الأمن السياسي السوري، أو المخابرات، فيما بات الكثيرون خائفين من الحديث بحريّة خارج عزلة منازلهم. تصف باحثة من حمص ثِقل هذا الضغط في مدينتها:

ومع ذلك، فليست المراقبة المستمرة والترهيب والقمع الأسباب الوحيدة لهذا الجوّ المثقل بالكآبة. لقد خيمت حالة من الإنهاك العام على السوريين المستنزفين والمفقرين بفعل الحرب، والخائبي الأمل في من زعموا قيادتهم أو حمايتهم، والمعدَمين إلى درجة لا تسمح لهم بأكثر من السعي وراء قوتهم اليومي. تتابع الباحثة الحمصية ذاتها:


«بالـ2011 كان الكل عم يحكي بالسياسة، حتى اللي ما بيفهموا فيها. اليوم ما حدا بجيب سيرتها، لأنها آخر همّهن. الناس بدها تعيش. كل طاقتهن بيصرفوها على تدبير لقمة العيش، أو تطليع قرايبينهن من السجن».

محلّل من شمال أفريقيا، عاش وعمل عقوداً في دمشق، يشير بدوره إلى النقطة ذاتها وهو يصف علاقاته الحالية مع أصدقاء له في العاصمة وحولها: «العباد ضايعين ومحبطين لدرجة أنهم بيهتموش بالأحداث اليومية. حتى الموالين يقولولك صراحة أنهم بيعرفوش فين رايحة الأمور. ما حدا قادر يشوف المستقبل»

التمزّق

وكما جرى سحق المجتمع السوري، كذلك جرى تمزيقه إرباً. وإذ باتت المجتمعات المحلية متجذّرة في الروتين الطاحن للحرب أو المنفى، فإنها انكفأت إلى مجموعات منفصلة لا تعرف الكثير عن بعضها البعض – بالرغم من وجود الكثير من القواسم المشتركة بينها.

لقد وسّعت الحرب، على أحد المستويات، شروخاً اجتماعية واقتصادية كانت موجودة قبل النزاع بفترة طويلة. تعتبر مدينة حمص نموذجاً مصغَّراً لهذا التوجّه. فالمدينة ذات الأغلبية السنّية والأقليات المسيحية والعلوية الوازنة كانت أوّل مركز حضري مهمّ ينتفض وتؤول فيه الأمور إلى حمّام دم طائفيّ مرير. وبعد مرور أربع سنوات تقريباً على استعادة القوات الموالية لها، ما زالت الانقسامات المجتمعية في حمص واضحة بقسوة، إذ بات كل شيء مصبوغاً بصبغتها، من التفاعلات الاجتماعية العادية إلى أنماط إعادة الإعمار والعمل المدني. يصف أحد العاملين في منظمة غير حكومية كيفية صوغ هذه الانقسامات لمناخ العمل الخيري في حمص: «الجمعيات الخيرية ما كانت طائفية بالأساس، بس الحرب خلتها تصير طائفية. الناس ما عم يرتاحوا بالشغل برا مناطقهم».

في حمص، كما في جميع أنحاء سوريا، ترتبط الانقسامات الطائفية ارتباطاً وثيقاً بالانقسام بين المؤيدين للنظام والمعارضين له – وهي ثنائية غير كافية لكن لا مفرّ منها في الوقت نفسه، وَسَمَتْ عائلات بأكملها وأحياء وبلدات ومدناً على نحو سيبقى يتردّد صداه لعقود. وبينما راهنت الأغلبية السنية في حمص بشكل ساحق على الثورة، سارعت الأقلية العلوية في المدينة إلى التحرك ضد ما اعتبرته تهديداً وجودياً لها. اليوم، مع عودة نظام دمشق، فإن الحدود الطائفية تأخذ بعداً جديداً، يتقابل فيه المنتصر والمهزوم وجهاً لوجه.

تأييد النظام أو معارضته هي ثنائية  غير كافية لكن لا مفر منها

يُبدي رجل من حي علويّ في حمص تذمّره حتى من الجهود الضئيلة الجارية لإعادة تأهيل المناطق السنية في المدينة: «ما بعرف ليش بتسمح الدولة بهي المشاريع تبع إعادة الإعمار. لازم يصير هالشي بمناطقنا، لشكر الأسر اللي ضحّت بولادها». وبينما يشعر عدد كبير من السنّة في سوريا بأن صوتهم مصادَر وأنهم يُعاملون بوحشية، فإن التجمعات العلوية غالباً ما تعتبر نفسها ضحية، مازجةً شكاوى مشروعة بدوافع انتقامية تجاه السنّة الذين يرون أنهم خانوا الوطن. من جانبهم، يعبّر السنّة مراراً عن وجهة نظرهم المعارضة، المتمثّلة في أنّ الأحياء العلوية اغتنت عبر التربّح من الحرب. يقول تاجر سني في المدينة: «المناطق الموالية استفادت كتير كتير وصارت متل دول صغيرة بيديروها الشبيحة. حتى الأمن ما فيه يفوت  عمنطقة متل المهاجرين [حي علوي شعبي]. هالشي بيخوّف، ومو مبيّن أنو الأمور رح ترجع لطبيعتها قريباً».

علاوة على ذلك، تجسّد حمص الفجوة الآخذة في الاتساع بين الأغنياء والفقراء في سوريا – وهي حقيقة ساعدت على تشكيل أساس للانتفاضة ووصلت اليوم إلى نسب غير مسبوقة، في ظل استفادة زمرة محدودة من اقتصاد الحرب في وقت تنحدر فيه الأغلبية إلى الفقر. يلخّص تاجر سني حمصي الوضع بالقول:

«قضت الحرب عالتجارة هون. كتير من التجار اللي إلهن سمعتهن هربوا أو انقتلوا. والبقية خايفين يرجعوا ع مصالحهن القديمة. فيك تشوف أنو بعض التجار عم تمشي أمورهن – بفضل علاقاتهن المنيحة مع المخابرات والتبليغ عن الشباب اللي عندهن تواصل مع المعارضة، أو بفضل المبالغ الكبيرة اللي بيقبضوها من العائلات اللي بتحاول تأمّن طلعة ولادها المحتجزين من السجن. هدول هنن التجار الوحيدين اللي عم تمشي أمورهن».

ثمة مزيد من الانقسامات التي قد تكون أقلّ ظهوراً للعيان، ولكنها ليست الأقلّ خطورة؛ انقسامات تتفجر منذ سبع سنوات من الوحشية والفوضى في كافة الأراضي السورية. في الواقع، لا يمكن للانقسامات الأكثر وضوحاً، القائمة على الطائفة أو الطبقة، أن تقدّم وصفاً لتعقيد وسيولة المشهد. تبقى بعض خطوط الصدع أقل دراماتيكية وغير محسوسة إلا من قِبل من خَبِروها على نحو مباشر. ورغم كل المشتركات الاجتماعية يمكن للجيران وزملاء العمل والأصدقاء والأقارب أن يكونوا على طرفي نقيض فيما بينهم. ذلك أن لكلّ جزء من البلاد نسيجه المتشابك من الأحداث المأساوية الذي يقتضي الحلحلة.

لقد ولّد الصراع، في الواقع، تراكماً هائلاً من الاستياء الذي ربما تم قمعه في الوقت الحالي، لكنه لن ينسى في المستقبل القريب. خذ، على سبيل المثال، هذا المعلّم من الرقة، الذي يدلي بوجهة نظر قاتمة حول الشروخ المستمرة التي خلّفها حكم تنظيم الدولة الإسلامية في المدينة:

«كتير من مقاتلي الدولة غيّروا البدلة وانضموا لقوّات سوريا الديمقراطية [التي يقودها الأكراد] ليحموا حالهم وعيلهم. بس ما تغيروا؛ هدول الناس سيئين، ورح يضلوا سيئين. والانتقام جاي عالطريق. ما حدا رح ينتقم اليوم، لأن الكل مشغول بحاله. بس بالأخير كل حدا عانى تحت داعش أو قتلت له داعش حدا من إخوته رح ياخد بثاره».

كما يتفاقم إرث العنف بسبب التنافس الشرس على الموارد الضئيلة، الأمر الذي يولّد مصدراً آخر للاستياء المتزايد. ففي دمشق، أخذت التدرجات الطفيفة بالظهور بين سكان المدينة الأصليين وفسيفساء النازحين، الذين يتصارعون فيما بينهم على الوظائف والمساعدات الخيرية. تشرح امرأة نازحة من دير الزور شعورها بالذنب لأخذها وظائف أحد المعروفين في سوريا أيضاً بتعبير «النازحين» – والمقصود السوريون الذين نزحوا عام 1973 إثر الاحتلال الإسرائيلي لمرتفعات الجولان، والذين شغلوا مناصب متدنية داخل الهرم الاجتماعي السوري:

«الست اللي بشتغل عندها كان عندها مرا من مخيم الوافدين [الذي يقطنه «النازحون» القدامى] بتنظف بيتها، بس كبرت بالعمر وصارت تكسّر الغراض. صاحبة الشغل خبرتني إني أصغر منها وهالشغل بيناسبني أكثر.
في مرا ثانية كانت توظّف نسوان من الوافدين بس ما عاد تعتبرهم نازحين. صارت تحس إنو الناس اللي متلي من النازحين الجداد أولى.»

تشيع حكايات مشابهة بين من يكافحون من أجل البقاء في العاصمة ومحيطها. تصف امرأة من ريف حلب تجربتها في التنقل داخل هرم الحرمان في دمشق: «جينا عالشام قبل سنة، وقدمنا عالمساعدات تبع الهلال الأحمر. عطونا 3 بطانيات وفرشة وآخر شي 3 سلات غذائية. بس هلأ وقفوا، قال ما بقى فيهن يعطونا شي – هلأ أجا دور أهل الغوطة». وتشير امرأة من درعا إلى موضع آخر: «الديرية بياخدوا كل السلل. بيعرفوا يقنعوا عمال الإغاثة لحتى يعطوهن». غالباً ما يشعر المحتاجون من السكان المحليين بالإهمال، حيث يقول أحد سكان ضواحي دمشق: «المؤسسات الخيرية بدها تساعد النازحين الجايين من أماكن تانية، لهيك كلما بروح لعندهم بقلن أني نازح».

لكلّ جزء من البلاد نسيجه المتشابك من الأحداث المأساوية الذي يقتضي الحلحلة

ورغم أن هذه الانقسامات تبقى أقل خطورة من الانشقاق الحاصل بين المصطفّين على طرفي النزاع، إلا أنها تلقي مع ذلك الضوء على المدى الذي أدى معه العنف إلى تصديع سوريا ومكوّناتها. القائمة تطول: فقد ترسخت الفجوة بين السنة المحافظين وأولئك الأكثر علمانية، لتبدو واضحة للعيان حتى في المعاملة التفضيلية عند نقاط التفتيش. تقول امرأة من ضواحي دمشق: «أنا فيني سوق بسهولة أكتر لأني مو محجبة، إذا حطيتي حجاب بيفترض الأمن أنك مع المعارضة». كما تعمقت الشروخ بين السوريين داخل البلاد وخارجها، وبين المجتمعات الحضرية والريفية، وكذلك بين العاصمة ومحيطها – إذ غالباً ما تلوم المجموعات الأولى هذه الأخيرة على الانتفاضة والدمار الذي تبعها.

يقود هذا التشرذم كما يبدو إلى ظهور تشكيلة متنامية من جهود «الحوار» المموّلة غربياً – حوار بين مجموعة طائفية وأخرى، وبين التجمعات المضيفة والنازحين، وبين مؤسسات الدولة والجهات المعارضة الفاعلة. ورغم الحاجة الماسّة إلى الحوار، فإن بعض السوريين يحذّرون من التركيز على الحوار فقط من أجل الحوار – حتى لو تطلب ذلك دفن أكثر المسائل جوهريةً في القضية. يصف رجل أعمال من دمشق تجربته الفاشلة في المحادثات التي تقترح ربط مختلف عناصر القطاع الخاص السوري: «صار في تجارة كاملة اسمها ’الوساطات‘، حتى بين أطراف ما عندهم أي اختلاف. هاد ولسه كل المشاكل اللي شعّلت الثورة صارت أسوأ».

يغدو خطر التستّر على أسوأ مشاكل سوريا أكثر حدّة عندما تتزايد قدرة نظام دمشق على فرض روايته للأحداث في جميع أنحاء البلاد – عبر تقوية الموالين الأكثر عدوانية وإسكات المعارضين وكذلك الواقفين في مكان ما بين الاثنين.

حفظ التماسك


بالنظر إلى جَسامة التشرذم الذي طال سوريا، فإن ما يُثير الدهشة هو البراعة التي يستمر عبرها السوريون العاديون بتدبير أمورهم – معتمدين على مزيج من الشجاعة والصبر وأشكال من التعاضد الذي من شأنه إنقاذ الأرواح.

ويعني هذا، بالنسبة إلى كثيرين، الانتظار والثبات ريثما تأخذ الأمور مجراها ليتمكنّوا من استئناف حياتهم بحقّ.

يصف معلّم موظّف لدى الدولة ويعمل في دير الزور تجربة أصبحت نمطية هي عودته إلى مدينته بعد عدة سنوات من النزوح في محافظة الحسكة

«انبسطت كتير لما لقيت بيتي واقف – صحيح كل شي فيه انسرق، بس عالأقل إله حيطان وسقف. بدي حوالي مليونين ليرة [4,000 دولار] لصلحه. مخبّي شوية مصاري، وابني دكتور بالسعودية، وقام يبعتلي شوي مصاري محتاجها للشقة وكمان لأدفع لميليشيا كردية حتى تعفي ولادي التانيين من التجنيد.

الحياة في الدير مو تمام. ما في خدمات أساسية أبداً. بس عندي بيتي عالأقل، وأتوقع أن الحكومة رح تمد المي والكهربا بعد كم شهر، والسنة الجاية رح تفتح بعض المدارس. تعبت من النزوح. بدي أرتاح بين أهلي وناسي. هون أقدر أروح عالقهوة، أشوف أصحابي، وأقدر أأرگل وأشرب شاي وألعب شدة كل يوم».

في كثير من الأحيان، تتطلب الظروف المتغيرة درجة عالية من القدرة على التكيف في سبيل البقاء فقط. يشرح مواطن آخر أقل تفاؤلاً، من دير الزور أيضاً، ما كان عليه فعله للحفاظ على وظيفته في مركز صحي حكومي بعد أن ترك أسرته تعيش أماناً نسبياً في نزوحها في دمشق:

«قبل 3 شهور طلبوا مني أرجع ع دير الزور لكفي الشغل أو بخسر وظيفتي. بس المشكلة أنه عندي 3 بنات مراهقات وولدين، وأخاف أجيبهم معي بسبب الميليشيات والعصابات الإجرامية. صارت المدينة مسكن للشبيحة، مو للمدنيين. لهيك صرت أمضي أسبوع واحد كل شهر مع أخي بالدير، و3 أسابيع مع عائلتي بدمشق. كان عندي بيت طابقين وصيدلية كبيرة بدير الزور. التنين اتدمّروا.

راتبي 45 ألف ليرة (85 دولار) شهرياً، بس هاد ما يكفي لتغطية الأجار بالشام. بطالع 60 ألف ليرة [120 دولار] بالشهر من شغل ساعات طويلة بصيدلية خاصة. الروحة على الدير والرجعة تكلّف لوحدها أكتر من الراتب اللي بيجيني من الدولة – بين 45 و50 ألف ليرة (90-100 دولار) للرحلة الوحدة».

في كثير من الأحيان، تتطلب الظروف المتغيرة درجة عالية من القدرة على التكيف في سبيل البقاء فقط

وإذ بات السوريون مجبرين على أن يزيدوا درجة اعتمادهم على أنفسهم، فقد زاد اعتمادهم أكثر فأكثر على بنى الدعم الاجتماعي الحيوية. والواقع أن ظروف الشدّة خلقت مفارقة: حتى مع انقسام المجتمع بطرق لا تعد ولا تحصى، فإن حجم الحرمان جعل السوريين أكثر ترابطاً من أي وقت مضى.

ولعل أهم وأكثر آليات الدعم انتشاراً هي التحويلات المالية من الأقارب المقيمين في الخارج. تشرح امرأة نازحة من حمص وتعيش الآن في دمشق كيف تسمح مساعدة أهلها لها بالبقاء على قيد الحياة:

«اشتغلت عند مرا كبيرة بالعمر، بساعدها وبعيش عندها، وأخدت منها دفعة عالحساب ليقدر زوجي يفتح محل صغير. بس صابته جلطة، واضطريت أترك الشغل وأستلم المحل بداله. كانت المصاريف، بين أجار وفواتير وأكل وعلاج لزوجي ومدرسة بنتي أكبر من المدخول. عندي 3 خوات – اتنين بالخليج ووحدة بحمص – وحالتهن أحسن من حالتي، فصاروا يبعتولي مساعدة شهرية».

ثمة أشكال دعم أخرى أكثر تنظيماً، ولكنها ليست أقل صدقية – إذ لا تتأتى من أي مصلحة مالية أو سياسية، بل من الرغبة البسيطة في مساعدة الآخرين. غالباً ما تحفز مثل هذه الجهود الشعبية الاحتياجات الفورية والعاجلة، وتتوقف على حسن نية السكان المحليين القادرين على تحمل أعبائها. يصف أحد ضباط الجيش المتقاعدين يعيش في إحدى ضواحي دمشق كيف قرر هو ومجموعة من الأصدقاء اتخاذ إجراءات خارج أي مبادرات إغاثة رسمية:

«بالـ2013، أجت أعداد كبيرة من النازحين ع مدينتنا، وكان بدهن سكن وأكل. في ناس قدمولهم أكل وبطانيات، أو لاقولهن شقق فاضية ومحلات ومدارس ليناموا فيها. وبلشت أنا و6 أصدقاء نتناقش كيف نجمع التبرعات. صرنا ندوّر عالناس بالمنطقة ونطلب يتبرعوا بأي شي زايد عندهم، من أكل وبطانيات ومصاري. في ناس تطوّعت لتعمل وجبات سخنة. وفي أطباء عرضوا يفحصوا النازحين، وصيادلة قدموا أدوية مجاناً.

زرنا المنطقة الصناعية وطلبنا من صحاب المصانع يعطونا مواد لتجهيز مساكن. وفي مصانع تياب وافقت تتبرع بتياب مرتين بالسنة، ومصانع أغذية صارت توفر المواد الغذائية الأساسية كل شهر. وقدرنا نجيب كمان مساعدات مالية من مغتربين سوريين».

نهض  السوريون بشكل جماعي لمواجهة تحديات جمّة 

وسائل الدعم غير الرسمية كهذه ذات جذور عميقة في المجتمع السوري. إذ طالما تضامنت الطبقات الوسطى والعليا في البلاد مع أبناء بلدهم المحتاجين بطرق حيوية، حيث لعبت الشبكات التجارية والدينية في سوريا دوراً ريادياً. على أن الأمر المختلف اليوم هو حجم المشقة في جميع أنحاء البلاد، التي وصلت من الصعوبة إلى مكان غيّرت معه طريقة تقبّل السوريين لصدقات الآخرين. يلاحظ رجل أعمال من وسط سوريا كيف أن العوز، الذي كان يتطلب في الماضي درجة معينة من التكتّم أصبح حقيقة معيشية معلنة لا يمكن إخفاؤها. «كانت الناس متعودة تتكتم على إنها عم تاخد مساعدات. هلأ تغير الوضع. صرت اليوم تسمع عمال مصنع عم يسألوا ’وين المدير؟‘ ويجاوبهم حدا إنو المدير عم يستنى سلّته. البلد كله عايش عالمساعدات».

مع ازدياد الاحتياجات، نهض المواطنون السوريون العاديون بشكل جماعي لمواجهة تحديات كأداء – إنجاز يعتبره رجل الأعمال السابق بصيص أمل:

«لسه الناس بيتصدقوا عالطريقة الإسلامية، من باب إنو الأقربون أولى بالمعروف. إذا حواليك شخص بحاجة لمساعدتك – مثلاً حدا من الجيران – وما كنت قادر، فمسؤوليتك تلاقي حدا تاني بيقدر يساعده. هالمفهوم لساتو متل ما هو تقريباً، والمجتمع كله تقريباً بيمشي عليه. سبع سنين حرب ولسه ما تخرب هاد الجانب من الثقافة السورية، وهالشي بيفتخروا فيه السوريين».

* * *

تتجه الحرب في سوريا نحو نهاية لا نهاية فيها؛ لا تنطوي على أي حسّ بالانتهاء. وبينما تتراجع حدة العنف الواسع النطاق، ستبقى الأسئلة الأساسية دون إجابة: ما عدد الذين قتلوا؟ على يد من؟ ولأي سبب؟ كما ستظل تعتّم على مآسٍ لا تُعدّ ولا تُحصى السرديات المتنافسة، والأدلة المطموسة، والدمار الهائل الذي حاق بالبلاد.

ثمة أسئلة أخرى استُنفدت مراراً وتكراراً، إلا أنها تفتح رغم ذلك الباب على سيل من التعليقات اللامنتهية والتي لا طائل منها. لقد انتصر النظام، وفقاً للشروط القصوى التي وضعها منذ البداية، وبدون رغبة بالمضي قدماً في التسوية. لن يقوم حلفاء دمشق بعد انتصارهم بإعادة إعمار البلاد. ولن تفعل ذلك الدول الغربية، التي ستواصل تقديم الدعم الإنساني مع رفض تمويل إعادة إعمار شامل يقوده الأسد. لن يجري تقويم على المستوى الوطني، ولا إصلاح جدّي، ولا مصالحة ذات معنى في المستقبل المنظور.

شكراً لك! إنَّ مشاركتك النَّشطة - ببساطة عن طريق استثمار وقتك في عملنا ومشاركته مع مَنْ هم حولك - هي مكافأة كبيرة لنا. يسافر هذا المنشور بقدر ما تحمله والجمهور؛ لذلك نحن ممتنُّون للغاية.
لكن كل ذلك لا يعني أنه ما من أسئلة تستحق الطرح. على العكس، فالقضايا الأكثر إلحاحاً هي تلك التي يكثر تجاهلها، في وقت يركز فيه العالم بأكمله على الجغرافيا السياسية وعمليات السلام الجوفاء. هذه الأسئلة تتعلّق بكيف تعثّر وتغيّر وفي النهاية نجا المجتمع السوري – تتعلّق بما أصبحت عليه سوريا، وسبل تنظيم السوريين لأنفسهم، وحاجاتهم اليوم لخلق مستقبل يخصّهم هم. لا يمكن العثور على إجابات لهذه الأسئلة في جنيف أو أستانة أو أروقة السلطة في دمشق. لكنها ما سيتهامس به الناس على أرض الواقع.

6 آب/ أغسطس 2018 

جرت كتابة هذا المقال بشكل جماعي بواسطة فريق سينابس سوريا.
قام بالترجمة للعربية فريق دوكستريم. 


تم استخدام الصور المتاحة من قبل MédiHAL
 تم تصميمها لغرض البحث العلمي وخصّيصاً للمعهد الفرنسي للشرق الأدنى(IFPO):

The city that didn't know where to start

Tripoli’s revolving stalemate


الانكفاء، التصالح، الصمود

فسيفساء سورية


الحرب السورية بوسائل أخرى

ميدان المعركة الاقتصادية


اشترك لتلقي منشورات سينابس. ننشر فقط ما يدعونا للفخر

مطلوب *