الانكفاء، التصالح، الصمود
فسيفساء سورية
أليكس سايمون
لدى السوريين قدرة عجيبة على تلخيص الاضطرابات التي تشهدها بلادهم – بكل تعقيداتها ووحشيتها وإنسانيتها – في بضعة جمل. وهو ما يطرح سؤالاً على المراقب الخارجي: ما الذي يمكن لأحدنا أن يضيفه، إن كان له أن يضيف شيئاً، بشكل يسلط الضوء على الحقائق التي ينطق بها السوريون بدل أن يطمسها؟ يزداد السؤال إلحاحاً وسط نشاز التعليقات الخارجية على النزاع السوري، والتي تدور حول سياقات لا صلة لها بواقع البلاد: حملة إعادة إعمار لا يتوفر لها المال، أو موجة عودة لاجئين كل ظروفها مجهضة، أوعملية سلام لا يؤمن بها أحد.
في الأثناء، يستغرق السوريون في حسابات هادئة. أثناء استماعي إلى أصدقاء ومعارف منتشرين بين درعا والرقة، وبين بيروت وبرلين، أدهشني دوماً الوضوح والاتساق اللذان يسمان محاولات الكثيرين منهم لتقييم وفهم تحوّلات النزاع. هذه المداولات فردية للغاية لكنها جماعية في الصميم، وهي تضاف إلى فسيفساء غير مكتملة ولكن كاشفة عن تموضع المجتمع الحالي حيال مسرح الأحداث القادمة.
تقول هذه الصورة الناتجة ما يفوق مجموع أجزائها. فالسوريون هم أوّل من يشير إلى ما يخلّفه الإرهاق والخذلان من انكفاء للمجتمع على ذاته – وهو ما يبدو تخلّياً عن أي أمل بمستقبل أفضل. النظام المنبعث والراغب في الانتقام يعزّز بدوره هذا الانكفاء بالقمع الذي لا يلين. لكن دمشق تسعى إلى الإغواء أيضاً: أن تجذب السوريين إلى أشكال متنوعة من التعاون والتواطؤ.
ومع ذلك، سرعان ما تكشف السرديات اللاحقة عن صراع السوريين من أجل شكل من أشكال التقدم، مهما يكن بطيئاً أو غير محسوس. يتخذ هذا الإصرار أشكالاً عديدة، من النشاط المدني الخافت الأضواء إلى الاندفاع البسيط لكن المتين لفهم التحولات السورية والشهادة عليها. تتضافر هذه الكفاحات غير المرئية لتشكل تصوراً أكثر تكاملاً لمستقبل سوريا. أما بالنسبة للمراقبين الراغبين في فهم إلى أين تتجه سوريا وتقديم الدعم لأبنائها خلال المرحلة القادمة فثمة الكثير الذي يمكن تعلّمه ممن سبقوا لأخذ زمام المبادرة.
التخلّي
حاولت إقنع أهلي يطلعوا من سوريا، بس مستحيل يفكروا بالموضوع. بدهن يكونوا ببلدهن بس ما عندهن أمل بالمستقبل. لسا معظم رفقاتي بسوريا، بس كلهن مكتئبين. في واحدة بالزور بتطلع من الحي آخر سبع سنين؛ زوجها مطلوب ع الجيش وما بيقدر يمرق ع الحواجز.
أنا شخصياً بحس بدي إرجع، بس ما بدي إرجع. يمكن إرجع بس إذا حسيت في فرصة إلي إعمل شي… حتى الرجعة لأسبوع واحد فيها بهدلة. في هاد الضغط النفسي تبع الشعور بعدم الأمان، وصعوبة الواحد يدبّر حاله بهيك وضع اقتصادي.
كمان في قصة الحياة الثقافية اللي ما عاد موجودة. النظام كان دائماً قمعي، بس كان لسا في ثقافة – أنا مدينتي طلّعت كتير مفكرين وكتاب وشعراء. اليوم مافي شي. حتى المثقفين المعروفين ما عم يعملوا شي، لأنهن مكتئبين.
وجدت أن المحادثات حول الحياة داخل سوريا تميل للعودة إلى المشاعر نفسها: الإحباط، والتعب، والخذلان.وأحياناً تصل إلى حد اليأس دون أن تدري. لا مفرّ من مثل هذه المشاعر بعد سنوات من الحرب العقيمة والكارثية. فالرضوض النفسية تتراكم كل يوم، والعنف يتواصل في مختلف أصقاع البلاد. وحتى المناطق التي ينحسر فيها النزاع عليها التعايش مع إرثه المسموم: ظروف معيشية متردّية ومضايقات من جانب السلطات، فيما العقوبات الغربية الخانقة تفاقم البؤس السوري وتضاف إلى البؤس الاقتصادي الناجم عن الدمار والتشظي والفساد. ومع أن قسوة الحرب تفاوتت بين مجتمع وآخر، إلا أن الشعور العام بالضيق والمعاناة يتجاوز حدود الطائفة والولاء.
حتى وقت قريب، كان البعض يعزّي نفسه بالقول إن النزاع سينتهي والحياة ستتحسن، لكن هذا الاحتمال يزداد ابتعاداً يوماً بعد يوم. ورغم مزاعم الانتصار في الحرب، تبقى معظم المشكلات الملحّة على حالها: حالات التجنيد والاختفاء والإعدام مستمرة؛ وسطو الدولة على الممتلكات في تزايد؛ وأزمة الخدمات العامة تستفحل أكثر. والنتيجة أن كثيرين ما زالوا يجدون سبلاً للهرب، فيما يكافح الذين اختاروا البقاء في كثير من الأحيان للعثور على أي سبب للتفاؤل. لخصت صديقة تقيم في إحدى ضواحي دمشق حالة اليأس الذي يحيط بها بالقول:
في كتير من الكبار بالسن حواليي عايشين بيأس، في منهن بطلوا يهتموا يصلحوا شي خربان بالبيت، وفي قرايبي بطل يروح لعند دكتور الأسنان مثلاً، قال: “رح نموت بعد شوي، ليش لنروح عالدكاترة؟“. الشباب الصغار كمان عدميين بس بطريقة تانية، الكبار ما بقا تفرق معهن بشي، بينما الصغار بس سوريا اللي ما بقا تهمّن. كلن بس بدن يسافروا لبرة.
يحمل الذين ضحّوا في سبيل الانتفاضة غالباً طبقة إضافية من الكدمات العاطفية. هذه جراح ذاتية المصدر جزئياً، إذ معظم هؤلاء يسائل نفسه عن الانحرافات التي حصلت، وعن الأشياء التي كان يمكن أن تحول دون تلك الانحرافات. غالباً ما يلازم هذا التساؤل شعور مرير بالاستياء تجاه من يزعمون تمثيل أو دعم الثورة: من الحكومات الغربية المتقلّبة إلى المعارضة السياسية الفاشلة، إلى جملة الفصائل المسلحة الهزلية التي لا تتفوق بشيء عن النظام الذي توعّدت الإطاحة به.
الشعور العام بالضيق والمعاناة يتجاوز حدود الطائفة والولاء
«فصائل المعارضة أثبتت إنها مرتزقة»، بحسب عبارة أحد الناشطين من محافظة درعا الجنوبية، معقل الاحتجاجات التي انطلقت في آذار 2011. تحدثنا في مقهى ستاربكس في عمان، في فترة – تشرين الأول 2018 – حيث كان مزاج المعارضة المقيمة في الأردن حينها قاتماً للغاية. كانت القوات الموالية للنظام قد استعادت الجنوب السوري مؤخراً بعد حملة بالكاد استمرت لأسابيع. سرعة الانتصار – الذي سرّعته موجة اتفاقات «مصالحة» بوساطة روسية – باغتت الجميع، وكشفت عن استعداد فصائل الثوار لإبرام أي اتفاق، ناهيك عن شعور عارم بالإعياء والإحباط لدى سكان الجنوب – جزء غير يسير منه موجّه إلى الثوار أنفسهم. بحسب ما أوضح الناشط:
اليوم الناس عندها خيارين: دكتاتور واحد عند النظام وعشرين ديكتاتور عند المعارضة. لهيك رح يختاروا النظام. حوران كلها بتكره بشار، بس هالكره ما بيعني إنو الناس مستعدة ترجع تعيش الثمان سنوات الماضية لما كانت عم تدفع الثمن لوحدها. مملكة الخوف رجعت. الكل رح يذعن كرمال ينسمحله ياكل.
كانت مواضيع الإذعان والاستسلام حاضرة كغمامة داكنة فوق كل محادثة خضتها في تلك الرحلة في الأردن. تمتد هذه السحابة نحو دول مثل لبنان، حيث السوريون عالقون بين إجراءات قانونية عقابية وخطاب سياسي مفزع. على السوريين الذين لا يستطيعون العودة بأمان أن يختاروا إما المعاناة إلى ما لا نهاية في ظل هشاشة الحياة في لبنان، أو اختيار شكل من أشكال الهرب – القانوني أو غيره – عادةً باتجاه أوروبا. أحد المقيمين في بيروت، وهو من محافظة دير الزور الشرقية المدمرة، وصف محنته ببرود مرعب: «مرحلة الحرب خلصت، هلأ مرحلة الانتقام. هون كمان الوضع سيء، الواحد أحسن لو يكون كتير بعيد.»
إن قبح السنوات الأخيرة وتفككها يمكن أن يخلق شعوراً مريراً بالغربة حتى بين السوريين الذين يعيشون وضعاً مستقراً نسبياً ويتنقلون بحرية بين لبنان ومسقط رأسهم في سوريا. «بعاني كلما بحاول إرجع لعند أهلي، بحس حالي منفصلة عن الناس هنيك»، بحسب تعبير موظفة في منظمة غير حكومية تنحدر من منطقة موالية وسط سوريا. «كتير بختلف عنهن كيف بيفكروا، بنشوف الثورة بطريقتين مختلفتين. أنا قدرت أنقذ كم علاقة، بس إذا بتنفتح سيرة السياسة ممكن يتدمر كل شي». أحد الأصدقاء الحماصنة أعرب عن حرج مشابه فيما يتعلق بخوض غمار العودة إلى بلد زلزلته الحرب: «بالنسبة إلي الموضوع موضوع كرامة وعدالة. كيف ممكن إرجع إتعامل مع ناس بالسلطة هالقد وسخين ومجرمين؟.»
إن قبح السنوات الأخيرة وتفككها يمكن أن يخلق شعوراً مريراً بالغربة
هذه القطيعة تهاجر بسهولة عبر البحر المتوسط، وهي تتسرب إلى دوائر بعيدة يكافح فيها السوريون للحفاظ على علاقاتهم مع أرض الوطن. في ألمانيا، حيث يمكن القول إن السوريين وجدوا المنفى الجماعي الأكثر احتمالاً، كانت المناقشات مع النشطاء تنحدر كل مرة نحو صعوبة العثور على طرق لمواصلة دعم مجتمعهم في الوطن. في لقائنا في أحد مقاهي برلين، أشار شاب من وسط سوريا لمجموعة من القضايا المشتركة:
جو النشاط السوري هون يا دوب موجود؛ شي محبط وبيكئّب. التهينا بكل القصص اللازمة تبع الاوراق والاندماج لدرجة العائلات ما عندها طاقة حتى لتحاول تطلع ولادها المعتقلين بالسجون بسوريا. أنا شخصياً كتير عم لاقي صعوبة ضل عم ساعد ناس بسوريا. نحنا الناشطين بنحكي بشغلات كبيرة بس ما بنعمل شي. أحياناً بخجل لما ناس بالداخل يطلبوا مني شي وما إقدر إدعمهن.
ناشط ومبرمج شاب ردّد هذه النقطة أثناء حديثنا في مطعم يمني في برلين:
بتمنى إرجع على سوريا بس أنا مطلوب لسبع فروعة أمن. بدي 15,000 دولار رشاوي بس لجرب إمحي إسمي من كل هالقوائم. وحتى هيك ما رح كون آمن. وما رح إدفع للأسد 15,000 دولار.
أنا كنت دائماً ضد إني إجي ع أوروبا، كنت بعرف إنو ح يصير صعب الواحد يضل بالجو. قضيت سنتين ببنغازي بليبيا، قبل ما إجي لهون، وهنيك كان أسهل بكتير دعم الناس بسوريا: بقدر لاقي شغل كمبرمج، وما كان فيه مشتتات أو محلات الواحد يصرف فيه. كنت إشتغل 16 ساعة باليوم وإبعت كل المبلغ تقريباً على سوريا. هون بدك سنين لتلاقي شغل يسمحلك تدعم الناس بهالطريقة.
الجدير بالذكر أن هذا الانطواء على الذات يشمل أفراداً كانوا يتمتعون بنفوذ كبير في مجتمعاتهم المحلية ذات يوم. وبعد أن اتخذوا موقفاً علنياً ضد النظام السوري، وجدو هؤلاء أنفسهم مضطرين للتواري عن الأنظار بسبب عدم وجود خيارات أخرى. «هسع فترة صمت»، بحسب تعبير شيخ معارض من جنوب سوريا، خلال اجتماع انقطع مرة بمكالمة هاتفية حملت خبر وفاة من درعا. بدا الشيخ حزيناً ومتأكداً من شكل المرحلة المقبلة: «مافيش شخصية قيادية معارضة للنظام بتقدر تلعب دور، لأنو مافيش وسيلة تدعمنا. ما بتقدرش تقاوم بدون وسائل مقاومة.»
كما تحدث شيخ آخر عن معضلة مماثلة بينما كان يتناول كعكة في منزله في إحدى ضواحي عمان، فهوى لا يرى أي خيار للعودة بالرغم من الضغط الشديد الذي يتعرض له للعب دور في المنفى:
انتهى زمن تكون مع أو ضد النظام. فيه كثير وجهاء من الجنوب رجعوا على الشام، مع إنهن كانوا أول مين ثار. هاذ مش خيار عندي. مافيش طريقة الواحد يعرف إيش ممكن يصير إذا جربت أرجع – يمكن إنقتل أو إتعذب أو إختفي أو أي شي. كمان موضوع إنك تمد إيدك للشخص اللي عم يقتل شعبك… أنا كرمز للعائلة بقدرش أعملها.
تتلازم سرديات الاستسلام على نحو متزايد مع حكايات استقطاب سوريين نحو التعاون مجدداً مع النظام الذي كانوا يقاتلونه. دمشق من جانبها متمرّسة منذ زمن طويل في فنّ ترويع المجتمع بيد وإغرائه بيد أخرى – فتح أبواب الترقي الاجتماعي والاقتصادي للمستعّدّين لتسليم أنفسهم تماماً له. وبعد فترة من الفتور النسبي، عادت هذه الاستراتيجية العريقة لتعمل من جديد.
التورّط
الناس بالجنوب حاسّين بالهزيمة – بإنو مافي حل غير يرجع النظام. هاد الإحباط عميق، وعندك جيل تربى خلال الحرب. الولد اللي كان عمره 12 لما بلشت هلأ عمره 20.
والكل حاسس بالخطر. بدهن يصدقوا إنو روسيا رح تحميهن، بس النازحين اللي رجعوا لقوا بيوتهن عم تصفّق وما فيهاش شي – لا زجاج ولا أنابيب ولا مواشي. ما حدا بيعرف شو رح يصير. النظام عنده إنو يعاقب الكل، باستثناء اللي وقفوا معه صراحة. لهيك ما حدا بدرعا مع النظام، بس كثار عم يسايروه.
مشايخ العيل الكبيرة أول مين عمل هيك. في ضغوط كبيرة على هدول ليبوسوا شوارب النظام وإلا يا ويلهن ويا ويل ناسهن. تخيل حدا دمّر بيتك وقتل إبنك وبعدين لازم تستقبله مرة ثانية؟ بس شكله هي أكثر طريقة حكيمة. اللي صار صار واللي مات مات.
وبينما تُغرِق الحرب السوريين العاديين في حالة من الفقر والعوز، تجد قلّة من الانتهازيين ثروة وسط الأنقاض. فعودة النظام توفّر العديد من الفرص – قبل كل شيء للشخصيات ذات النفوذ المحلي والمستعدة للانضمام إلى الحظيرة. «الوجيه ما بيصير وجيه إذا مش ناوي يكون مع النظام»، بحسب تعبير صحفي من ريف درعا لا يخفي ازدراءه للعدد الكبير من الشخصيات القبلية والمسؤولين المحليين ورجال الأعمال الذين يساهمون بعودة السلطات. «النظام بيعرف هالشي كثير مليح، وعم يتصرف ع أساسه. هدول ناس ما عندهم أيديولوجيا، هدول انتهازيين، مع النظام لأنه القوة المسيطرة ولأنه معندهمش خيار ثاني.»
لا يكاد هيكل السلطة المتداعي وشبه المفلس يحفّز أحداً بشكل إيجابي. لكن سوريين كثيرين سيأتون بالشيطان للتخلص من الفلتان الأمني وأجهزة المخابرات الحقودة. «الناس بالغوطة الشرقية عم يدلّوا على بعض ليحموا حالهن»، هذا ما قاله أحد الأصدقاء من مدينة دوما الثائرة في ريف دمشق خلال حديث لنا على فنجان قهوة بعد ستة أشهر من سقوط مدينته. وأوضح:
بالذات اللي كانوا يشتغلوا بمنظمات وهلأ عم يتعرضوا لتهديدات ومضايقات. لما تحقق معهن المخابرات كتار عم يقولوا إنهن كانوا مع النظام طول الوقت – وبصيروا بيخبروا قصص عن غيرهن ليثبتوا هالشي. فيه ناس لسه عندهن طريقة خاصة ليعلنوا ولائهن، إنو يعملوا حفلة مثلاً على أساس مبسوطين إنو رجع النظام. بعرف وحدة النظام قتل زوجها؛ زوّجت بنتها لضابط أمن لتحمي عيلتها.
يمتد التواطؤ القسري إلى عدد لا حصر له من الشبان الذين وجدوا أنفسهم منجرّين إلى خليط من الجماعات المسلحة الموالية للنظام. «مافي أكثر من العيل السورية اللي بايعة النظام بقشرة بصلة، بس هلأ بتدعي من قلبها ينتصر لأنو عندها ولد انسحب ع العسكرية أو على شي ميليشيا»، بحسب أحد الباحثين من شرق سوريا بعد مقابلات أجراها مع سكان حلب. «بشرق حلب ممكن تلاقي عشرات العيل اللي عندها على الأقل ابن واحد بيخدم بالقوات الموالية، وهدول ناس مجبورين عملياً يكونوا موالين.»
ردّتا الفعل هاتان، التخلّي والتورّط، تتولدان بشكل طبيعي من الخسائر الفادحة التي ترتّبت على النزاع وتطاوله بلا نهاية. لكن المفاجئ بالنسبة لي كان كثرة المرات التي انتقل فيها السوريون من تفصيل مزاجهم اليائس إلى التأكيد فجأة وبكل تصميم على رغبتهم في شقّ طريقهم، والسلاسة العفوية التي يحدث بها هذا الانتقال. بإخلاص، بإقناع، ودون مسحة تظاهر أو تعظيم ذات، يبحث هؤلاء الأفراد عن سبل الدفع نحو حتى أبسط أشكال التقدم ضمن التضييق المتزايد في سوريا.
المكابدة
بالنسبة إلي، جزء مهم من التغيير إنك تعرف إنو بإيدك. هذا ممكن يرجع السياسة للناس، ويخليهن يحسوا إنو بيقدروا يعملوا شي ليعيشوا حياة أفضل. بـ 2011 الناس كانوا مآمنين إنهن بيقدروا يغيروا، ونحنا بحاجة نرجع هي الروح. بس تطبيقنا للموضوع عم يكون كتير بسيط، متل إنو نشتغل على إقناع الناس تتعامل مع مشكلة الزبالة اللي حواليها: تاخد المبادرة، تبطل تدفع ضرايب لتضغط على بلديتها..
الفكرة إنو لسة بدنا نحاول نعمل شي، وحاسين بحاجتنا للمعرفة، لأنو بالثورة كنا مستعجلين نغير، قبل ما نعرف كيف الأمور وصلت لهون بالبلد. بس المشكلة إنو كتير ناس بتحس إنو نحنا ساذجين لأنو لسة عم نحاول.
أنا شخصياً عندي إحساس بالذنب تجاه اللي صار، بحس حالي من المستفيدين. يمكن ما كنت اشتغلت بالصحافة لو مافي حرب، وشوف قديش عم اقبض، مقارنة بجيراني اللي يمكن ما بيطالعوا 50 دولار بالشهر. بعتقد إنو لازم نكون واعيين لامتيازاتنا، ونوظفها بطريقة نقدر نساعد اللي حوالينا.
يبدو سعي بعض السوريين منصبّاً على أهداف ملموسة نسبياً: إعادة إحياء الانخراط السياسي بين أقرانهم، أو حفظ الحياة الثقافية، أو مساعدة السوريين الأكثر عوزاً. آخرون يشيرون إلى دوافع أكثر تجريداً وأعصى على التعبير، ولكنها لا تقلّ قوّة: دافع فهم ما يجري وتقديم شهادة عليه، ورفض ترك الوطن في أيدي مدمّريه، وإيمان عنيد بأن الأشياء يمكن ويجب أن تتحسن، مهما كان ذلك بطيئاً ومؤلماً. صديق يعيش مع زوجته وأولاده في العاصمة السورية شرح فلسفته كما يلي:
الناس بتسألني ليش بقيان هون. حتى النظام ما بيفهمني وما بيوثق فيني بسبب هالشي. بس سوريا بلدي. لا هي فندق ولا بدي غادره – بدي إمرق ع الحواجز، وروح ع السوق، وإفهم اللي عم يصير. أنا مسؤوليتي إلقط حقيقة اللي عم يصير قد ما فيني. بيوم من الأيام هالنظام رح ينتهي، وأنا بدي كون هون.
وبالمثل، يصف الذين احتفظوا بموطئ قدم لهم في سوريا مخاوفهم حيال الثمن الباهظ لمغادرتها بشكل دائم. «أنا بخاف إذا ما عدت زور سوريا من وقت لوقت، ممكن خلال ست شهور لاقي حالي عم إحكي عن بلدي بدون ما إفهم فيه شي»، بحسب صديقة في بيروت ما تزال تزور مسقط رأسها. «الثورة خلّتني فكّر كيف خلي العالم مكان أفضل، ولو بأصغر الطرق. وجهة نظري إنو المعرفة بتعطي الناس قوة.»
الكثير من رجال وسيدات الأعمال يبحثون بهدوء عن سبل مجدية مالياً ومفيدة اجتماعياً للمضيّ قُدُماً
لا ينبع الانخراط الملتزم والبنّاء بالضرورة من رؤية مثالية أو رغبة بالإيثار فحسب. فالمحادثات مع أبناء الطبقة التجارية المتينة والمتكيفة مع تبدل الأحوال في سوريا تكشف أيضاً عن تموضعات مماثلة. بعيداً عن الكلام المبتذل حول محاسيب ومستفيدين، الكثير من رجال وسيدات الأعمال يبحثون بهدوء عن سبل مجدية مالياً ومفيدة اجتماعياً للمضيّ قُدُماً. ومع ذلك على هؤلاء الأفراد السير بحذر: فالعمل التجاري في سوريا مليء بالمخاطر الاقتصادية والسياسية، ودمشق تزداد شراسةً في استبقاء الفرص الأكثر ربحاً لحلفائها المقرّبين. أحد رجال الأعمال الذين بقوا في الداخل طوال الحرب يشرح ذلك:
عم دوّر ع طرق ساعد ناس ببناء مساكن بشكل محدود. طبعاً كان لازم بلش من مكان صغير كتير، حارتي بس، وضل بعيد عن الأضواء. مساحة البزنس المستقل كتير ضيقة، وجماعة النظام مصرّين يبلعوا كل شي. بس كمان بدهن الناس تموّل إعادة الإعمار لحالها، وبالتالي مجبورين يعطوا هامش لهالشي.
فعل الخير داخل سوريا يقوم على توازن دقيق من الناحية العملية والأخلاقية. ليس الوسط فاسداً فقط بل مُفسد أيضاً – أي أنه مصمَّم لجرّ السوريين إلى مختلف أشكال التسوية والتواطؤ. «كل اللي بسوريا فاسدين حتماً بشكل أو بآخر. الفساد جزء مقبول من الحياة، شي بيمزحوا فيه ع التلفزيون»، كما يقول صحفي رصين يعيش في ضواحي دمشق وله خبرة في التحليل ومراجعة الذات. «حتى الشخصيات العامة اللي من كل عقلهن عم يحاربوا الفساد ما بيوصلوا لمطرح ما وصلوا إلا لأنهن فاسدين. أحياناً بخاف كون أنا كمان فاسد من ساسي لراسي، لأني ما بقدر إعمل اللي عم اعمله بدون رشاوي ووسايط.»
فعل الخير داخل سوريا يقوم على توازن دقيق من الناحية العملية والأخلاقية
وبين من لا يستطيعون العودة إلى سوريا، فلدى الكثيرين منهم إصرار غير عادي على الاحتفاط بروابطهم البنّاءة مع الداخل. ورغم الإحباط الحادّ الذي يسم مثل هذه المحادثات نتيجة الانقسام المتزايد بين سوريي الداخل والخارج، إلا أن الالتزام المستمر لسوريي الخارج ينقذ أرواحاً في الداخل. أحد المهندسين والناشطين في جنوب ألمانيا وصف تحدي الجمع بين إبقاء التواصل مع سوريا والبحث عن أشكال نشاط جديدة في موطنه الجديد:
بحاول جهدي ضل على تواصل مع رفقاتي وقرايبي بدمشق وريفها. إتطمّن عليهن، إستفسر عن أمورهن، أعرف لما حدا مو منيح وبدو مساعدة. المبالغ اللي بيبعتوها الناس من هون تافهة، بس مع فرق العملة والظروف بسوريا هيك مبالغ ممكن تكفّى عيلة.
بنفس الوقت عم إشتغل مع مجموعة أصدقاء على تنظيم فعاليات تجمع سوريين وألمان – نحكي للناس هون عن سوريا، وأحياناً نقارن بين حربنا وحربهن. أي شي بيحسن التفاهم بين السوريين والألمان منيح. بس بيضل محدود، وبضل بتمنى لاقي طرق شغل أنجع.
ونظراً لكمّ المخاطر والتنازلات والعوائق التي تعترض محاولات شقّ طرق جديدة، فإن مظاهر التفاؤل الحقيقي مفقودة حتى في أكثر السرديات انخراطاً واستشرافاً. ما يبقى بالأحرى هو الإيمان المتواضع لكن الدؤوب في إمكانية – وضرورة – إحداث فارق على هامش الأحداث. وصف محترف سوري في منتصف العمر ومعارض سابق للنظام عملية تفكيره الشخصية وهو يشرب عصير برتقال في مقهى خارجي في برلين:
ما بقدر إرجع هلأ، بس عم إسعى رتّب أموري لحتى إقدر إرجع بيوم من الأيام. هالشي معقّد وخطير؛ قضية إنك تدخل قفص حيوان مفترس. بس بدي إترك أثر بسوريا، وبدي ساعد أهلي وناسي. وهالشي بيتطلب لاقي طريقة للتعايش مع هالنظام.
هذا النوع من الواقعية البارّة – وضوح الهدف الذي يسم كثيرين وهم يتحدثون عن شعورهم الفريد بأعباء المستقبل – هو ربما أقرب شيء إلى الأمل في سوريا.
الخارج الناظر إلى الداخل
بينما يحثّ السوريون الخطى نحو المرحلة القادمة من النزاع، تحلّق مناقشات الغربيين التائهة في فضاء موازٍ من اختراعهم. موقف الاتحاد الأوروبي عالق في شبكة من الأوهام، حيث يؤمّل أن تقود الضغوط الاقتصادية والمفاوضات السياسية المطوّلة وغير ذات الصلة إلى إجبار النظام وراعيه الروسي على تمهيد طريق «الانتقال» – وبالتالي عودة اللاجئين إلى بلد مدمّر لا تبدو عليه أي علامة ترحيب. لكن حتى هذه السفسطة تبقى حكيمة بالمقارنة مع ما يجري في واشنطن، حيث السياسة الخاصة بسوريا تتحرك أكثر فأكثر على إيقاع تقلّبات مزاج الرئيس وجولات مصارعة وهمية مع إيران. أشار دبلوماسي غربي مخضرم إلى التباين الصارخ بين التخبّط السائد في معسكره والشفافية الكالحة القادمة من دمشق:
جزء من قوة النظام أنه يرى نفسه كما هو، بينما نرى أنفسنا كما نود أن نكون. ثمة حاجة حقيقية لأن نكون صادقين مع أنفسنا. جوهر الاستراتيجية الغربية لسوريا غامض إلى أبعد حد في الوقت الحالي، وهو يدور حول مصطلحات مثل «الانتقال» و«العملية» و«الشمول» و«الحقيقي…» وكل ذلك يعني أشياء كثيرة.
والواقع أن هذه الضبابية كانت عامل الاتساق الوحيد في السياسة الغربية حيال سوريا. فمنذ البداية كان اللاعبون الغربيون يسعون إلى تحقيق أقصى الأهداف بأشدّ الوسائل فتوراً وتذبذباً: وضعنا كل رهاننا في سلّة المعارضة بينما دعمناها فقط بما يكفي لتشويهها كألعوبة غربية؛ قطعنا كل سبل التواصل مع النظام دون أية خطة لما يمكن فعله في حال صموده؛ صفعناه بعقوبات مدمرة دون أن نمتلك رؤية متماسكة حول جدوى هذه العقوبات.
واليوم، لم يعد لدينا سوى القليل من الخيارات، وثمن باهظ يتوجب دفعه على أي منها. ثمة أقلية صغيرة في المعسكر الغربي تميل إلى التطبيع الصريح: رفع العقوبات، وإعادة فتح السفارات، وضخ أموال بهدف إطلاق إعادة الإعمار. آخرون ينجذبون نحو موقف معاكس: التصالح مع أنه لا يمكن تحقيق أي شيء، والانسحاب التام، وكبح جماح أي طموحات حتى على مستوى برامج المساعدات في داخل سوريا. ومع ذلك، وكما أن التعجيل في العودة إلى دمشق سيؤدي فقط لإثراء نظام لن يقدم بالمقابل أي شيء، فإن الانسحاب التام – مع إبقاء العقوبات والعزلة – سيكون حكماً على المجتمع السوري بمواصلة كفاحه المنفرد من أجل البقاء. ليس أي الخيارين المتطرفين منطقياً من الناحية العملية، وكلاهما فاجع من الناحية الأخلاقية.
لم يعد لدينا سوى القليل من الخيارات، وثمن باهظ يتوجب دفعه على أي منها
غير أنه لا وعود أخرى يمكن انتظارها من مواصلة ما يجري حتى النهاية. أوهام حدوث مرحلة انتقالية، والاستثمار في مفاوضات هزلية، والغوص في مناقشات لا أساس لها حول عودة اللاجئين، لا يجعل وجود الفاعلين الغربيين فقط بلا معنى؛ بل يعمّق من تواطئنا في البؤس السوري. وبينما ترخي محادثات السلام والعمليات الدستورية هالة من الشرعية على نظام ما يزال عاتياً كما كان دائماً، فإن الكلام السابق لأوانه حول العودة يصعّد شيئاً فشيئاً الضغوط الحالية التي تواجه اللاجئين، ويعزّز موقف دمشق وموسكو استعمالهما لحياة السوريين كأوراق مساومة. في الأثناء، من شأن التمسّك بغايات سيئة التوصيف ومستحيلة التحقيق أن يضمن انجرار الفاعلين الغربيين والإقليميين – بفعل عجزهم المطلق – نحو أشكال مرتجلة واعتباطية من التطبيع.
لذلك يكمن التحدي في خطّ مسار لا يكون إطلاقياً فيؤول إلى الفشل ولا رومانسياً فيصبح خاوياً من المعنى: تحديد أهداف طموحة ولكن قابلة للتحقيق، بحيث تدعم ببطء ولكن بشكل ملموس المجتمع السوري في زحفه الجهيد نحو المستقبل. لن يحدث انتقال ديمقراطي، ولا دستور شامل لجميع الأطراف، ولا عمليات عدالة ذات مغزى، لكن ثمة طرق لدعم أطياف السوريين وهم يعيدون ترميم وسائل عيشهم مع بعضهم البعض. ستبقى إعادة الإعمار كصفقة كبرى غير ممكنة، لكن رواد الأعمال والمزارعين والمعلمين السوريين بحاجة إلى كل يد عون يمكننا مدّها.
اليوم، سياستنا الوحيدة الممكنة التطبيق هي الاستثمار في مساعدة المجتمع السوري على التحضّر – بشكل عملي وملموس – لمرحلة طويلة وصعبة تنتظره. يستلزم ذلك على مستوى ما دفعة مركّزة ونقدية لتحسين بنى الدعم القائمة بالفعل لسوريي الداخل والخارج. إن هياكل المساعدات الحالية غير كافية بقدر ما هي مستحكمة: لا يمكن إعادة بنائها من الصفر، ولكن يمكن بالتأكيد تعديلها بالحدّ الأدنى لكبح السلوكيات الأكثر خزياً وإخلالاً بغرض المساعدة. وفيما يخص هذه الجبهة، فإن أسوأ سيناريو قد يحدث هو أن يقوم الفاعلون الغربيون بتوجيه الآليات الموجودة تدريجياً نحو إغراء السوريين بعودة متعجلة وخطرة.
يجب أن يكون الاستثمار المكثف في رأس المال البشري السوري في صميم جهودنا
يجب أن تتزامن إعادة دراسة موقفنا الحالي مع جهد مضاعف وأكثر إبداعاً لتدعيم الموارد التي سيتوقف عليها بقاء سوريا على المدى الطويل. ينبغي على الاستثمار المكثف في رأس المال البشري السوري أن يكون في صميم هذا الجهد، وهو ما يمكن مقاربته بعدة سبل: من المنح الدراسية في أوروبا، إلى مبادرات التعليم والتدريب المتنوعة في سوريا ودول الجوار، إلى الاستفادة من حس الالتزام والابتكار لدى السوريين في مجالات تتراوح بين الصحافة وبرمجة الكمبيوتر وحتى الهندسة الزراعية. وبالفعل، يجب أن تركز التدخلات بشكل خاص على مساعدة السوريين على استباق كارثة تلوح في الأفق في مجالَي المياه والأمن الغذائي، وذلك من خلال الدعم الموسع والاستشرافي للتقنيات الحديثة في الزراعة وترشيد المياه.
وأخيراً، يمكن للأطراف الخارجية فعل المزيد لتمهيد الطريق أمام السوريين للبدء في إعادة تكوين الروابط المتقطّعة والمحافظة على تلك الآخذة في الاندثار. ففي حين لا تحمل المؤتمرات المبهرجة وتدخلات بناء السلام القصيرة الأجل أملاً كبيراً، يمكن للدعم المتواضع ولكن المتواصل لمبادرات مثل المراكز المجتمعية – التي تعطي للسوريين مساحة يناقشون فيها، وفق شروطهم الخاصة، القضايا التي تهمهم بشكل يومي – أن يؤدي إلى تحولات هامة مع مرور الوقت.
يُصاب السوريون أحياناً بالذهول من كمّ الارتباك الذي يعيشه الخارج بعد كل ما حدث. لقد تخلوا منذ زمن طويل عن المخططات الكبرى المتعلقة بإنهاء الأزمة، وأخذوا بدلاً من ذلك ينخرطون في محاولات عنيدة ومبتكرة إلى أقصى حد لجعل العالم صالحاً للحياة مرة أخرى. وهم يخطّون لأنفسهم مساراً في المنطقة الرمادية بين الانكفاء والتصالح، ويجرّبون طرقاً جديدة لمقاومة واقعهم الكئيب، حتى لو توجب عليهم العمل ضمن هوامشه الضيقة. في سعينا لفتح ولو قنوات ضئيلة للتقدم، يمكننا على الأقل أن نتعلم منهم الإبداع والمثابرة.
4 آذار/ مارس 2019
أليكس سايمون هو شريك مؤسس في سينابس.
قام بالترجمة للعربية فريق دوكستريم
تم استخدام الصور بموجب رخصة المشاع الابداعي من:
Roman mosaic from Antioch by Wikipedia; Rustico cement tiles by Flickr