مهارات البحث


 تطبيق أخلاقيات البحث


    في هذا المقال:

  • كيف نجعلُ أخلاقيات البحث أكثر من مجرد ممارسةٍ شكليةٍ
  • كيف نطلبُ المشورة المهنية عندما نحتاجها

إنّ من طبيعة البحث أنه مكلفٌ ومحفوفٌ بالمخاطر؛ وغالباً ما تظهر نتائجه ببطءٍ ولا تكون قيمته واضحةً ولا مؤكدةً. علاوةً على ذلك، نادراً ما تفيد النتائجُ الإيجابيةُ للبحث "الأشخاصَ" الذين يكرسون وقتهم وطاقاتهم وقصص حياتهم لمشروعٍ بحثيٍّ ما. فكيف يمكننا أن نضمن إذن، على أقل تقديرٍ، ألا نسبب لهم أيّ ضررٍ؟ وكيف يمكننا أن نتحلى بمسؤوليةٍ أكبر تجاه من نلتقي بهم أثناء بحثنا، وكذلك تجاه دافعي الضرائب ممن يمولون هذا البحث؟

لقد أنتجت هذه الأسئلة العويصة كمّاً هائلاً من المبادئ الأخلاقية والإرشادات والسياسات وعمليات المراجعة، وهي كثيرةٌ لدرجة أنها غالباً ما تربك الباحثين. يرى كُثرٌ أنّ من المستحيل التوفيقَ بين المعايير المجردة، "كالإحسان"، والظروف الفوضوية التي يعملون فيها، وستندهش من كثرة الباحثين الذين يرون في المراجعات الأخلاقية الرسمية ممارسةً شكليةً ليس إلا، أي مجموعةً من القيود الأدائية التي لا تقدم سوى القليل في مواجهة معضلات الحياة الواقعية.

يجب علينا ترتيب المخاوف لمعرفة أيها يستحق أكبر قدرٍ من الاهتمام

إن الحلَّ ذو شقين. أولاً، يجب علينا ترتيب المخاوف لكي يعرف الباحثون ما الالتزامات التي تستحق أكبر قدرٍ من الاهتمام، خاصةً في بداية حياتهمُ المهنية. ثانياً، يجب أن نوفر مساحةً لمزيدٍ من المناقشات الديناميكية والمنفتحة المستنيرة بالمبادئ الأخلاقية، والتي تركز كذلك على المواقف غير المتوقعة أو الغامضة أو المحددة للغاية التي نواجهها مراراً وتكراراً. وحتى الأولويات الواضحة مثل الأمن ليست بالضرورة واضحة المعالم، وقد تتعارض مع أفضل الممارسات الأخلاقية الأخرى. في سياق الأنظمة الاستبدادية، على سبيل المثال، فإنّ مطالبة مَن نقابلهم بملء استمارة موافقةٍ قد يُعرّضهم لخطرٍ جسيمٍ بصرف النظر عن حُسن نيتنا.

يجب أن يبدأ التسلسل الهرمي العملي والسديد بالحرص على الحماية من الأذى، ويمكن ترتيب المخاوف الأخرى ترتيباً مختلفاً نوعاً ما اعتماداً على طبيعة البحث. ينطبق الترتيب الآتي على العلوم الاجتماعية عموماً.

1. الحماية من الأذى

إن أكبر واجبات الباحث هو تجنُّب التسبب بأي ضررٍ للأشخاص المشاركين في بحثه، إذ يجب أن تركز منهجيةُ البحث على كيفية ضمان سلامة الاتصالات عن بعد والاجتماعات الشخصية وجمع البيانات والاحتفاظ بها. وبالنظر إلى كثرة مخاطر الأمن السيبراني اليوم، على سبيل المثال، تتمثل أُولى الخطوات السديدة في تشفير الملفات الرقمية التي تحوي نصوص المقابلات ونتائج الدراسات. كما يجب مراجعة جميع الاستراتيجيات من قِبل أناسٍ آخرين، وتنقيحها بناءً على ملاحظاتهم وتعليقاتهم.

 كما يجب مراعاة العديد من صنوف الضرر الأخرى الأقل وضوحاً، فقد تُعززُ الأبحاثُ الوصماتِ الاجتماعيةَ الموجودةَ أصلاً والمحيطةَ بالفئات الضعيفة من الناس؛ أو قد تفاقِمُ التوتراتِ بين المجتمعات؛ أو تسبّبُ الصدماتِ النفسيةَ لضحايا العنف ممن نقابلهم. وكلما كان الموضوع أو البيئة حساسةً، توجب علينا طلب المشورة المتخصصة، وتجنُّب الاعتماد على القواعد العامة.

2. الزيف

ينطوي البحث بطبيعته على التزامٍ أخلاقيٍّ بالسعي وراء الحقيقة، وهو ما يعني أيضاً دحض الأكاذيب والزيف. قد تكون هذه الأكاذيب في غاية الوضوح، كما هو الحال في تزييف البيانات أو فبركتها. غير أن قبولَ الوقائع دون التحقق منها، والاستخدامَ الانتقائي للمعلومات بما يلائم تحيزاتنا، وتشويهَ رواياتِ مَن نقابلهم من خلال تدوين الملاحظات من منظورٍ ذاتيٍ، وتداول الصور دون تحديد مصدرها، وتضخيم الفوائد المتوقعة من المشاريع البحثية، وسرقةَ المصادر الأخرى هي كلها أمثلةٌ على التضليل الفكري.

 للأسف، يرى بعض الباحثين أن هذه الممارساتِ ما هي سوى خطايا صغيرةٍ، لكنها في الواقع تقوّضُ الأسسَ المنهجية والأسس الأخلاقية للبحث العلمي. في حال وجود منطقةٍ رماديةٍ، فإنها تتعلق بكيفية تقديم الباحثين لأنفسهم ومشاريعهم: في بعض الأحيان قد يكون من المستحسن ألا نكشف كل شيءٍ عن هويتنا وأهدافنا ومنهجيتنا إن أردنا حماية مَن نقابلهم من عقابٍ محتملٍ. غير أن هذا الأمر دقيقٌ وخطيرٌ، وفي هذه الحالات، يجب على الباحثين السعيُ وراء إشرافٍ كفؤٍ على نحوٍ استباقيٍّ.

3. الموقعية

إن لموقعنا في المجتمع جوانبُ لا حصر لها، ما يجعل تفاعلاتِنا مع الآخرين معقدةً ومبهمةً، ولذا يجبُ علينا تحليلُ الكيفية التي يحدد بها موقعنا أنواعَ المعلومات التي نتلقاها والفهم الذي نتوصل إليه. فمثلاً يمكن لأبحاثنا بسهولةٍ ودون قصدٍ إعادةُ إنتاج التحيزات بين الجنسين والتمييز الطبقي والموروثات الاستعمارية وما إلى ذلك.

 ولكي نحدّ مِن تأثيرنا الخاص في البحث، من المفيد السماح لمن نقابلهم بتحديد القواعد، فإذا ما أوكلنا إليهمُ اختيارَ مكان اللقاء؛ فقد ينتج عن ذلك مناقشةٌ تختلف عن مناقشةٍ نفرضُ فيها تفضيلاتِنا نحن. ويجب أن تتكيف لغتنا ومفرداتنا مع لغةِ ومفرداتِ مَن نقابلهم لتجنُّب التحدث إليهم بازدراءٍ أو إغراقهم بالمصطلحات التخصصية غير الضرورية. وقد يتعين علينا أيضاً تعديل نظام لباسنا بعض الشيء كدليلٍ على الاحترام أو التواضع أو الاحتراف. كما قد نضطر إلى تحمُّل (وتحليل) النقد اللاذع ومقدارٍ من التنفيس عن المشاعر. يصبح التأمل في الذات مسؤوليةً أكثر صرامةً عند التعامل مع الفئات الضعيفة التي تعاني من النبذ أوِ الإقصاء أو العنف، وهذا لا يعني مجردَ جرعةٍ إضافيةٍ من الحساسية، بل كفاءةً أكبر وإشرافاً أكثر دقةً، والتي يجب أن نؤمّنها من أقراننا.

إن إدراكنا لموقعنا لا يقتصر على الحالات شديدةِ الحساسية فحسب، بل يرقى إلى التفكر، خلال مشروعٍ بحثيٍّ، في كيفية انتقاء من نقابلهم، وكيف نخاطبهم، وكيف نكتب نتائجنا، وكيف نستفيد من المواد الأخرى مثل الصور الفوتوغرافية (للفقر، على سبيل المثال)، وكيف نكافئ وننسب الفضل للأشخاص الذين ساعدونا في عملنا.

4. المساءلة

إن المساءلة، بوصفها مبدأً أخلاقياً، في غاية الأهمية لكنها غيرُ مُعرَّفةٍ تعريفاً واضحاً، وتنطوي على إثبات القيمة الاجتماعية لعملنا. فإذا كان بحثنا لا يسبب ضرراً، لكنه لا يأتي بأي نفعٍ، ألا يُعدُ ذلك إذن هدراً لمواردَ فكريةٍ وماليةٍ ثمينةٍ؟ لمنع ذلك، يجب أن نسأل أنفسنا: هل نتائجنا متاحةٌ للعامة بسبلٍ يسهل الوصول إليها، وتُظهر الاحترام لمن نقابلهم، وتَعود عليهم بالنفع، على الأقل كشكلٍ من أشكال المعرفة المفتوحة؟ هل تُوظَّف الأموالُ فيما يرضي دافعي الضرائب (وليس المؤسسات الراعية التي تقدم هذه الأموال فحسب)؟ هل يصل عملنا إلى الأشخاص المناسبين لزيادة فرص إحداث تأثيراتٍ ملموسةٍ؟ هل تتناسب مساهماتُنا مع مشروعٍ جماعيٍّ نبني فيه على جهود الآخرين ونُثني عليهم، بدلاً من مجرد إعادة اختراع العجلة؟

المساءلة أساسيةٌ لكنها غيرُ معرَّفةٍ تعريفاً واضحاً


 إن بعض مشاكل المساءلة مألوفةٌ للغاية، ومنها رفضُ الباحثين التعاونَ مع أقرانهم؛ وبحثٌ مكتبيٌّ سريعٌ يتجاهل معظم الأبحاث السابقة؛ وبياناتٌ تَظلُّ ملكيةً خاصةً بدل أن تَخدم الصالحَ العامَّ؛ ومقالاتٌ لا تُترجم إلى لغةِ مَن أجرينا معهمُ المقابلاتِ؛ وكتبٌ أكاديميةٌ لا يمكن سوى للجامعات شراؤها؛ ومنشوراتٌ مليئةٌ بالرطانة إلى درجةٍ يتعذر فيها فهمها؛ وميزانياتٌ للفعاليات الاجتماعية تفوق تلك المخصصةَ للبحث.

هذه الثغرات الأساسية في المساءلة كثيرةٌ لدرجة أنها تُعرِّض القطاعَ بأكمله للخطر، ما يعزز الاستياءَ من البحث، استياءً يمكن الشعور به في معظم المجتمعات، وستكون له عواقبُ وخيمةٌ على مستقبلنا.

                                                                 * * *

 عندما نكتفي بملء استمارةٍ خاصةٍ بأخلاقيات البحث، فإن هذا يُعدُّ انسحاباً. إن اتخاذ موقفٍ أخلاقيٍّ حقيقيٍّ يعني أن نكشف عن ترددنا وأن نتأمل فيه، وأن نكون صادقين ومنفتحين بشأن أخطائنا، وخاصةً الأخطاء الجسيمة. وفوق كل شيءٍ، يجب أن نكون منفتحين على التعلم من الآخرين، والبحث عن القدوة فيمن واجهوا مشاكلَ مماثلةً وتغلبوا عليها. ولذا يمكننا اختصار المبادئ المذكورة أعلاه في نموذجٍ مثاليٍّ محبَّبٍ: باحثٌ حريصٌ على تجنُّب إلحاق الضرر بالناس، وصارمٌ ومهتمٌ بالتفاصيل، ومدركٌ للحساسيات التي تنطوي عليها دراسة الآخرين، وحريصٌ على جعل عمله نافعاً.

 لا أحد يبدأ على هذا النحو، بل إنَّا لَنبلغ هذا المبلغ من خلال التعامل مع أخلاقيات البحث كنقاشٍ مستمرٍّ مع مَن نحاورهم أثناء البحث ومع أقراننا المحترفين طوال حياتنا المهنية، ولن نصبحَ قدوةً للآخرين حتى نبحث عن قدواتٍ نستمد منها الإلهامَ.

20 أيلول / سبتمبر 2022


إدارة الفريق

مهارات الإدارة


مواجهة مصر

مهارات التواصل


قائمة التحقق للباحث الصاعد

مهارات البحث


اشترك لتلقي منشورات سينابس. ننشر فقط ما يدعونا للفخر

مطلوب *