سوريا اليوم وغداً
مستقبل يحرثه الفلاحون
تتمتع سوريا بتراثٍ زراعيٍ غنيٍ، ويمكنها أن تطعم أبناءها بكل سهولةٍ لو كان بوسع مزارعيها أن يفعلوا أكثر من مجرد الكفاح من أجل البقاء، إذ لا يتمتع هؤلاء اليوم إلا بالقليل من دعم الدولة الذي طالما اعتمدوا عليه فيما مضى؛ ولذا باتوا؛ بدون هذا الدعم؛ يبحثون عن حلولٍ فرديةٍ قد تجدي نفعاً محدودَ النطاق؛ لكنها لا تحلُّ مشكلة انعدام الأمن الغذائي المتعاظمة في البلاد. وفي غياب هذه الحلول، تمرّ سوريا بتحولٍ بطيءٍ وفوضويٍّ نحو الزراعة اللامركزية، الأمر الذي سيعيد تعريف كيفية إعالة المجتمع لنفسه في قادم السنين.
أربعة مواسم من الأزمات
لقد وجّه العقد الماضي الضربة تلو الأخرى للمزارعين السوريين، فعقب الانتفاضة التي اندلعت في البلاد عام 2011 وما أعقب ذلك من صراعٍ، تحوّلت مساحاتٌ شاسعةٌ من الأراضي الزراعية الأكثر خصوبةً ونبضاً بالحياة إلى جبهات قتالٍ: فحورانُ في الجنوب، وسهلُ الغاب، وإقليمُ الجزيرة في الشمال الشرقي، وبساتينُ الزيتون في إدلب وعفرين، والمناطقُ الريفيةُ التابعةُ للمدن الرئيسة في سوريا كلها شهدت عنفاً واسع النطاق. أَضرمتِ القنابلُ وقذائفُ الهاون النيرانَ في المحاصيل، وفجرت قنوات الري، فيما نهبتِ المليشياتُ البنيةَ التحتيةَ الخاصةَ بضخ المياه، وأتت على الأحراج لاستخدامها كحطبٍ؛ كما اقتُلعتِ المجتمعاتُ الزراعيةُ من جذورها بعد أن استولت بعض العائلات على الأراضي التي فرّ منها أهلها، بينما شقت عائلاتٌ أخرى طريقها إلى المراكز الحضرية أو البلدان المجاورة.
نجت بعض الأراضي من العنف، لكنها عانت من الإهمال وذلك أن تغيّر خطوط القتال ونقاط التفتيش منَعَ المزارعين من رعاية حقولهم. اشتكى مزارعٌ في بلدة يبرودَ الواقعةِ في جبالِ القلمون الممتدةِ على حدود سوريا الغربية مع لبنان، من أن الحرب أجبرته على هجر أشجار المشمش فقال: "لقد يبست كل أشجاري وماتت لأني لم أستطعِ الوصولَ إلى أرضي والاعتناءَ بها." وأوضح أن النتائج قد تكون لا رجعة فيها: "لا أدري كيف لي أن أعود إلى الزراعة، فإصلاح هذه الأراضي سيكون مكلفاً للغاية؛ وحتى لو استطعتُ زراعة أشجارٍ جديدةٍ، فستحتاج سبع سنواتٍ لتؤتي ثمارها."
وعلى الرغم من انحسار العنف في معظم أنحاء سوريا، يواجه المزارعون اليوم انهياراً اقتصادياً يؤثر في كل مرحلةٍ من مراحل دورة الإنتاج؛ فلزراعة المحاصيل، يجب عليهم شراء البذور التي أصبحت أكثر تكلفةً من أيّ وقتٍ مضى، وذلك بسبب التضخم، وانخفاض قيمة العملة، وتأثير العقوبات الغربية، ونقاط التفتيش الداخلية؛ وفي ذلك قال باحثٌ يدرس القطاع الزراعي في شمال إدلب: "لقد أصبحت الأسمدة والمبيدات أكثر تكلفةً، وأصبح العثور عليها أكثر صعوبةً. يجب استيراد هذه المستلزمات من تركيا أو [عبر نقاط التفتيش] من المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة. وصحيحٌ أن الحبوب والبذور متوفرةٌ أكثر، لكنها أصبحت أغلى ثمناً أيضاً."
بعد زراعة المحاصيل، يشكّلُ الريّ التحديَ التالي، إذ يعتمد المزارعون اعتماداً كبيراً على المياه الجوفية التي تتطلب بدورها الوقود، لكن الديزل أصبح سلعةً نادرةً لدرجة أن البعض لا يستطيع العثور عليه ببساطةٍ، بينما يدفع آخرون أثماناً باهظةً لشرائه من السوق السوداء، ويستدينون في بعض الأحيان للقيام بذلك. أعرب مزارعٌ مسنٌّ في تل أبيض في الرقة عن إحباطه من ارتفاع التكاليف، ومن الانتقاد الذي يتلقاه بسبب تحميله المستهلكين تلك التكاليف: "أراضينا بحاجةٍ للريّ، والريّ يحتاج وقوداً. إن سعر الطماطم يرتفع بسبب ارتفاع أسعار الوقود، لا بسبب جشع المزارعين. يظنّ الناس في المدن أن الزراعة ما هي إلا وضع البذور في التربة والانتظار."
يواجه المزارعون الذين ينجحون في حصاد منتجاتهم تحدياً آخر، ألا وهو توصيلها إلى السوق؛ إذ يتطلب النقل مزيداً من الوقود، وغالباً ما يتطلب عبورُ نقاط التفتيش التابعة للفصائل التي تفرض الإتاوات على حركة المرور التجارية. لقد نما هذا الاقتصاد إلى أن بات على المنتجين والتجار أن يأخذوا هذه الإتاوات في الاعتبار حين تسعير تلك المنتجات. قال صاحب مشتلٍ في جنوب غرب سوريا، يشحن الزيتون والفاكهة وشتلات الورد إلى المشترين في الشمال الشرقي: "إننا نحسب الإتاوات التي ندفعها في كل نقطة تفتيشٍ، ونقسّم مجموعَ ما ندفعه على عدد الشتلات في الشحنة الواحدة، ثم نضيف ذلك إلى السعر النهائي."
لكن لا يمكن لجميع المنتجين تحميل المستهلكين تلك التكاليف؛ فقد يتسنى لهؤلاء المستهلكين أسعارٌ أفضل في مكانٍ آخر؛ وفي ذلك يوضح راعي أغنامٍ في بلدة منبج الواقعة في الشمال الشرقي، على بعد 400 كيلومتر من الحدود العراقية: "كنتُ فيما مضى أصدّر الأغنام إلى شمال العراق، لكني أُقصيتُ من السوق مؤخراً؛ فمنذ أن سيطرتْ قوات الحشد الشعبي على الحدود، راحت تفرض ضرائبَ مرتفعةً لدرجة أن ماشيتي باتت عاجزةً عن منافسة الماشية التي تُربى على الجانب الآخر من الحدود."
ومما زاد الطين بلةً أن المشكلاتِ المحليةَ في سوريا تتفاقم بفعل تغير المناخ، فبفعل ارتفاع درجات الحرارة وعدم انتظام هطول الأمطار، تهاوتِ الأنهار والخزانات في سوريا إلى مستوياتٍ منخفضةٍ محفوفةٍ بالمخاطر، مما يعرّض الري للخطر؛ كما أن ما تبقى من المياه يزداد تلوثاً يوماً بعد يومٍ بسبب مخلفات مصافي النفط المؤقتة الواقعة على طول نهر الفرات المهم للغاية. هذا وقد أدى الطقس الحار والجاف للغاية إلى إشعال الحرائق التي التهمتِ الغاباتِ على طول الساحل في الشمالي الغربي، وحقولَ القمح في الشمال الشرقي الذي يُعدّ سلةَ الغذاء في سوريا.
إن هذه المشاكلَ مجتمعةً كافيةٌ لإخراج بعض المزارعين لا من السوق فحسب، بل ومن البلاد أيضاً. قال مزارعٌ من ريف حماه يعتزم مغادرة سوريا مع عائلته: "لقد هاجر نحو ثلث سكان قريتنا." كما أعرب عن قلقه من أن الهجرة غير المنضبطة ستقضي على التقاليد الزراعية الراسخة في منطقته بقوله: "إذا استمر الناس في الرحيل بهذه الوتيرة، فسيؤدي ذلك إلى القضاء على الزراعة في هذه المنطقة تماماً، إذ لا يمكنك الزراعة بدون مزارعين."
تراجع دور الدولة
في مواجهة هذا الكمّ الكبير من التحديات، يجب على المزارعين الذين ما زالوا يعملون في الحقول أن يعولوا بأنفسهم بشكلٍ متزايدٍ؛ فمع تجذر الصراع، تخلفت مؤسسات الدولة عن توسيع مساحاتٍ شاسعةٍ من الأراضي الزراعية الأكثر أهميةً في البلاد. إن المشاكل التي يواجهها المزارعون الآن تتفاقم جرّاء تفكك هياكل الدعم التي سهلت عملهم طوال نصف القرن الذي سبق الانتفاضة السورية.
ابتداءً من الستينات، استثمرتِ الحكوماتُ البعثيةُ المتعاقبةُ استثماراً كبيراً في النهوض بالفلاحين في سوريا، فوزعتِ البذورَ والأسمدةَ والوقودَ والمبيداتِ المدعومةَ، واشترتِ المحاصيلَ الأساسيةَ بأسعارٍ أعلى من أسعار السوق، كما قدمت قروضاً ميسرةً مكّنتِ المزارعين من حفر آبارهمُ الخاصةِ بهم، وجعلت الصحراء تزدهر بالمحاصيل المروية مثل القمح والقطن. كما قدمتِ الهيئاتُ الزراعيةُ المحليةُ الإرشاداتِ الفنيةَ في مكافحة الآفات وأمراض النبات، وتدخلت في حالة نشوب الحرائق أو الفيضانات؛ وفي هذا السياق تذمّر مزارع قمحٍ مسنٌّ في الحسكة من قلة الدعم الذي يتلقاه اليومَ بقوله: "لقد دمرتِ الحربُ كل شيءٍ. لم يكنِ الأمر على هذا النحو قبل عام 2011، حين كانت المؤسساتُ العامةُ تساعدنا في الحصول على البذور والأسمدة والجرارات وتسويق محاصيلنا. لقد كان العمل جيداً أيام الدولة."
إن هذا الحنين إلى الماضي يُغفِل حقيقة تضاؤل الدعم حتى في ريعان الدولة، فعندما شرع بشار الأسد بتحرير الاقتصاد السوري في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، راح يفكّك ركائز التنمية الزراعية التي أرساها والده. وفي السنوات القليلة التي سبقتِ الثورةَ - عندما كان الشمال الشرقي يعاني أسوأ موجة جفافٍ شهدها التاريخ الحديث - توقفتِ الحكومةُ عن دعم الديزل والأسمدة، فارتفعتِ الأسعارُ بشدةٍ، مما جعل كثيراً من المزارعين عاجزين عن زراعة محاصيلهم وريّها، فغرقتِ المجتمعاتُ في الفقر، مما أدى إلى موجات هجرةٍ إلى حلب وحمص ودمشق والمناطق الريفية في الجنوب الغربي حيث الجفاف أقل حدةً. لقد استهانتِ الدولةُ بحجم هذه الحالة الطارئة التي فرضتها بنفسها إلى حدٍّ كبيرٍ، مما قلل من احتمالات الاستجابة الفعالة. تتذكر أكاديميةٌ رأت آثار هذه الحالة بأم عينيها: "لقد أصرتِ الحكومة على إنكار وجود أزمةٍ حقيقيةٍ، حتى بعد أن ظهرت حول دمشق مخيماتٌ مليئةٌ بمن فروا من قراهم في الحسكة."
وقد سرّعتِ الثورةُ السوريةُ وتيرةَ هذه العملية، ففي المناطق التي سيطرت عليها فصائل المعارضة - بما في ذلك معظم الأراضي الزراعية الأكثر إنتاجيةً في سوريا - انسحبت مؤسساتُ الدولة كلياً، أو قلّصت خدماتِها فيها إلى حدٍّ كبيرٍ. قال موظفٌ في البنك الزراعي السوري، الهيئةِ الرسميةِ المسؤولةِ عن تقديم القروض للمزارعين، معبراً عما يساوره من إحباطٍ: "لقد أوقفْنا كثيراً من عملياتنا بعد عام 2011. لقد بدأتِ الاضطرابات في المناطق الزراعية، في درعا والرقة ودير الزور والحسكة وريف حلب، ولذا لم يكن بمقدورنا فعل الكثير." وحتى في المناطق التي يسيطر عليها النظام، يعاني المزارعون من تراجع المساعدات الحكومية. قال مهندسٌ زراعيٌّ وموظفٌ حكوميٌّ أن تقلُّصَ ميزانية الدولة وضعفَ القدرة الإدارية قد قوّضا علاقة الدولة بأكثر الناس ولاءً لها:
إن دور الدولة في رعاية الزراعة أعمقُ من المساهمات المادية؛ فقد لعبتِ الجامعاتُ الحكوميةُ السوريةُ على مرّ التاريخ دوراً أساسياً في تدريب المهندسين الزراعيين ومهندسي الري، ورفد الوطن بمجموعةٍ من الخبراء، لكن هذه المؤسساتِ تدهورت كثيراً بعد أن غادر الموظفون الأكفاء بأعدادٍ كبيرةٍ، وأما من بقي منهم فبات يتذمر من الأجور الزهيدة، وظروف التدريس البائسة، حتى بتَّ ترى جيلاً من الطلاب لا يرى فائدةً تذكر من مزاولة الزراعة. قال أستاذٌ في الهندسة الزراعية في إحدى الجامعات الحكومية الرائدة في البلاد: "لقد غادر ثلث أساتذة كليتي منذ عام 2011،" وأضاف بنبرةٍ تشي باليأس: "أعرف خريجين كثراً درسوا الهندسة الزراعية فانتهى بهمُ الأمر أن يعملوا في محلاتٍ للهواتف المحمولة أو في وظائفَ حكوميةٍ متواضعةٍ."
ولما تخلتِ الدولةُ البعثيةُ عن دورها التقليدي، سعت قلةٌ من الهيئات البديلة لسد تلك الفجوة - لا سيّما المنظمات غير الحكومية وهياكل الحكم البديلة، كالإدارة الذاتية الكردية في الشمال الشرقي. بيد أن هؤلاء الفاعلين غالباً ما يكونون أولَ من يعترف بعجزه عن الاضطلاع بدورِ دولةٍ فاعلةٍ، لا سيما بالنظر إلى ميزانياتِهِمُ المحدودةِ وآفاقِ تمويلِهِمُ القصيرةِ الأمد. لخّص عاملٌ في منظمةٍ غربيةٍ غير حكوميةٍ تنشط في الشمال الشرقي هذه المعضلةَ بقوله:
لا تستطيع الإدارة الذاتية تقديم كثيرٍ من الدعم لأنها لا تملك المال الكافي؛ أما المنظماتُ غير الحكومية فتقدم أكثر، ولو أن ما تقدمه لا يزال ضئيلاً. وأما النظام فكان يوفر كل ما يحتاجه المزارعون، من قبيل البذور والأسمدة والمياه والوقود والدعم الفني، وحتى شراء المحاصيل بسعرٍ جيدٍ، الأمر الذي يستحيل على المنظمات غير الحكومية أن تُجاريه.
والنتيجة هي فسيفساءٌ تقدم فيها الدولةُ وخصومُها السياسيون وقطاعُ المساعدة قليلاً من الدعم داخل مناطق عملياتهم، بدءاً من القروض والمنح النقدية والمستلزمات المدعومة إلى الدعم الفني والتدريب. قد تكون هذه المساعدة الجزئية ذاتَ قيمةٍ كبيرةٍ للمزارعين الأفراد، لكنها لا تجدي كثيرَ نفعٍ في معالجة القضايا الجماعية الأكثر تعقيداً والمتعلقة بإدارة المياه والأمن الغذائي. اشتكى خبيرٌ في المياه يقيم في الأردن ويعمل لدى إحدى وكالات الإغاثة الغربية من أن "سوريا بحاجةٍ ماسّةٍ إلى استراتيجيةٍ طويلة الأمد، فكل ما نفعله عشوائيٌّ للغاية."
كلٌّ يزرع لنفسه
وبالتالي تُرك جلّ المزارعين السوريين بمفردهم لإدارة الانتقال من الزراعة شديدة المركزية والمدعومة من الدولة، إلى شكلٍ متطرفٍ من أشكال الخصخصة. وبسبب حرمانهم من شبكات الأمان الحكومية، فإنهم اليومَ يختبرون استراتيجياتِ بقاءٍ صغيرةَ الحجم، لكنَّ بعضَها واعدٌ. أولاً، بفعل نضوب موارد المياه وتمويل الدولة، تحول بعض المزارعين بعيداً عن المحاصيل المروية التي كانت مدعومةً في السابق؛ ففي الشمال الشرقي الذي يعاني من الجفاف، على سبيل المثال، تجرب قلةٌ قليلةٌ من مزارعي القمح بدائلَ أكثرَ مقاومةً للجفاف، مثل الحمص والفول. وأما في قرية أم شرشوح بريف حمص الشمالي، وصَفَ مزارعٌ منطقَه الاقتصادي والبيئي في تخليه عن زراعة القمح بقوله:
لقد هربتُ من قريتي عندما سيطر الجيش السوري الحر عليها سنة 2014، وعدتُ في عام 2017 ورحت أزرع القمح مرةً أخرى، لكن الأرباح لم تكن كبيرةً، ولذا أخذتُ بنصيحة أحد الجيران وتحولتُ إلى زراعة نباتاتٍ عطريةٍ مثل البابونج والكمون، وهي أكثر ربحاً ومقاومةً للعوامل الجوية، وكثيرٌ من المزارعين الآخرين فعلوا نفس الشيء.
لقد أدى كفاح المزارعين للبقاء واقفين على أقدامهم إلى ازدياد هذه التجارب؛ فترى بعضَ الابتكارات البسيطةً كشراءُ بقرةٍ لإنتاج السماد الطبيعي، لتحل محل الأسمدة الكيماوية باهظة الثمن، وترى البعضَ الآخر أكثر طموحاً، مثل تحوُّل بعض المزارعين إلى الطاقة المتجددة بعد أن حُرموا كهرباء الدولة، ولعجزهم عن توفير الوقود لتشغيل مضخات المياه وري محاصيلهم. "يحبذ المزارعون الألواحَ الشمسية"، قال مهندسٌ كهربائيٌّ يبيع هذه الألواح لشريحةٍ متناميةٍ من الزبائن في ريف دمشق: "في أيام الصيف الطويلة، يمكنهم تشغيل مضخاتهم من السابعة صباحاً حتى السادسة مساءً دون شراء أي وقودٍ."
وغالباً ما تُدعم الاستثماراتُ، الكبيرةُ منها والصغيرةُ، من قبل الشتات السوري. على المستوى الفردي، يمكن للتحويلات المالية أن تسدّ بعض الفجوات التي خلّفها توقّف الدولة عن تقديم القروض والإعانات، وفي بعض الحالات، لا تساعد هذه الشبكات في تغطية تكاليف الإنتاج فحسب، بل تسهم كذلك في الوصول إلى أسواق التصدير، حيث الأسعار أعلى مما هي عليه في الاقتصاد السوري المنهار. أوضح مزارع زيتونٍ في ريف درعا الشرقي كيف ساعدته الروابط الأسرية في جني المال من التصدير إلى الخليج بقوله: "نحن ننتج زيت الزيتون باستخدام معصرة والدي، كما نشتريه أيضاً من المنتجين الآخرين ممن يحتاجون إلى المساعدة في بيعه، ثم نشحن ذاك الزيت بكمياتٍ كبيرةٍ إلى الإمارات التي يمتلك أقاربي فيها متجراً، فيتولون جميعَ عمليات التسويق."
في بعض الأحيان، يأمل البعض في أن تؤديَ هذه الاستثماراتُ الصغيرةُ إلى تنشيط الزراعة المحلية القائمة على الكفاف في سوريا نفسها. قال أحد النشطاء في السويداء، حيث أدى انهيار الاقتصاد إلى تفشي الجريمة وحدوث احتجاجاتٍ عرضيةٍ: "يحاول المغتربون مساعدة عائلاتهم في الوطن في إطعام أنفسهم، وقد ساعدتِ التحويلاتُ الماليةُ الناسَ في زراعة أشجار التفاح والكرز والمشمش والبرقوق واللوز، كما سمحت لهم بشراء الأبقار والدواجن والنحل."
في بعض الحالات، أدى منطق الاكتفاء الذاتي هذا إلى دفع سكان المدن إلى العودة إلى قراهم الأصلية؛ وذلك في صورةٍ معكوسةٍ للاتجاه الأكثر شيوعاً، والمتمثل في التخلي عن الأراضي الريفية بحثاً عن سبلٍ أخرى للعيش في المدن. شرح موظفٌ حكوميٌّ في منتصف العمر كيف هجر منزلَه في مدينة اللاذقية وانتقل مع زوجته وطفليه إلى منزل عائلته في جبال الساحل السوري فقال:
لقد وصلنا إلى نقطةٍ لم نعد نتمكن فيها من شراء ما يكفي من الخضار ومنتجات الألبان لسدّ رمقنا، ولذا عدنا إلى قريتنا الأصلية للعيش بجوار والديَّ عندما انتهى العام الدراسي في نيسان / أبريل. يمتلك والدي أرضاً زراعيةً أعمل فيها أنا وزوجتي وأولادي طوال اليوم لإنتاج بعض الخضار وبعض الحليب من بقرة أمي. إنها حياةٌ بسيطةٌ، لكن على الأقل لدينا ما يكفي من الطعام. كثيرون اختاروا العودة إلى هذه الحياة الريفية.
لكن في نهاية المطاف؛ لا يبدو أن أشكال التكيف هذه تعزز مساراً مستداماً نحو إطعام سوريا ككلٍّ، فمقابل كل مزارعٍ قادرٍ على توفير المال لشراء الماشية أو تركيب الألواح الشمسية أو شراء البذور لتجربة محاصيلَ جديدةٍ، هناك كثرٌ لا طاقة لهم بذلك. أضف إلى ذلك أن للحلول الفردية تكاليفَ جماعيةً خفيةً، فاستبدال المحاصيل على سبيل المثال سلاحٌ ذو حدين، لأن أكثر المحاصيل المجدية اقتصادياً ليست بالضرورة أمسَّ ما يحتاجه المجتمع؛ ففي بعض المناطق، يسعى المزارعون الذين يكافحون لتحقيق توازنٍ بين التكاليف والأرباح إلى جني الأموال من تجارة المخدرات المزدهرة عن طريق استبدال المحاصيل التقليدية بالحشيش، وهو تحولٌ قد يكون مربح من الناحية المالية، لكنه يغذي أيضاً تحول البلاد نحو نموذجٍ اقتصاديٍّ أكثرَ اعتماداً على النشاط غير المشروع.
وبشكلٍ أكثر شيوعاً، راح المزارعون الذي يواجهون ارتفاعاً في درجات الحرارة وتعاقب مواسم الجفاف يحفرون أعمق بحثاً عن المياه الجوفية لري محاصيلهم. في هذا السباق الحرفيّ إلى القاع، يهدد كبار المزارعين - أولئك الذين لديهم الموارد للحفر مسافةً أعمق والضخ فترةً أطول - بدفع مناسيب المياه إلى ما هو أبعد من متناول المزارعين الصغار. وإذا نظرنا إلى الأمر من خلال هذه العدسة، فإن صعود الطاقة المتجددة يعني شيئاً أكثر شؤماً: فلمّا سمحتِ الألواح الشمسية للمزارعين بضخ المياه وغمر أراضيهم لساعاتٍ متتاليةٍ، فإنها سرّعت كذلك من وتيرة استنفاد موارد المياه الشحيحة أصلاً في سوريا.
أخيراً، وفي غياب دولةٍ قائمةٍ تنظم السوق، ساهمت جهودُ المزارعين المرتجَلةُ الراميةُ لتغطية تكاليفهم في دفع أسعار السلع - حتى الأساسية منها - بعيداً عن متناول الطبقة الفقيرة الآخذة في الاتساع في سوريا. يجد المستهلكون آلياتِ تكيفٍ خاصةً بهم، من قبيل الاستغناء عن المزيد من الأطعمة من نظامهم الغذائي، أو الاكتفاء بمنتجات أقلَّ جودةً وأقلً تغذيةً. "إن الأسعار ملتهبةٌ بحيث ترانا نتحاشى التفكير في شراء الكوسا بقدر ما نتحاشى التفكير في شراء اللحوم"، أقرت صحفيةٌ في ضواحي دمشق، وهي تلاحظ البديل غير المستساغ في الحي الذي تعيش فيه بقولها: "بات المزيد من الناس الآن يشترون المنتجاتِ الفاسدةَ من محلات الخضار لأن البائعين يبيعونها بسعرٍ مخفّضٍ." إن لهذا التحول آثاراً عميقةً: ففي مجتمعٍ يتمتع بتقاليدَ غنيةٍ وعريقةٍ في الطبخ والضيافة والاكتفاء الذاتي، تُعد صعوبةُ تأمين الغذاء الجيد صدمةً ثقافيةً ونفسيةً بقدر ما هي صدمةٌ غذائيةٌ.
بذور شيءٍ ما
وعلى الرغم من كونها بدائيةً وغيرَ كاملةٍ، ستحدد تكتيكاتُ البقاء التي يتبناها المزارعون اليوم كيفيةَ إطعام سوريا نفسَها في المستقبل؛ كما ستحدد أنماطُ الهجرة المساحات من الأراضي التي ستبقى مزروعةً، وتلك التي ستُهجر أو تُستخدم للتنمية الحضرية؛ وأما ما تبقى من المزارعين فتراهم يجمعون ذخيرةً جديدةً من المحاصيل والتقنيات والآليات المالية وطرق التجارة، ليزدهر بعضُها، ويذويَ الآخرُ.
تشير هذه التوجهاتُ مجتمعةً إلى شكلٍ لامركزيٍّ من الزراعة؛ شكلٍ سيستغرق نضجُه عقوداً من الزمن، ولن يعتمد شكلُ هذه التوجهاتِ النهائيُّ على جهود المزارعين الأفراد فحسب، بل كذلك على السؤال الأوسع المتعلق بالكيفية التي يعيد بها هيكلُ السلطة والمجتمعُ في سوريا تشكيلَ نفسيهما وعلاقةَ أحدهما بالآخر. يُعدّ تأمين الغذاء الكافي للناس من الوظائف الأساسية للدولة؛ لكن في السنوات القادمة، قد لا يشكل ذلك أولوية لنظامٍ لا همّ له سوى البقاء. وحتى ذلك الحين، من المؤكد أن إعادة تنظيم الزراعة السورية من قاعدة الهرم إلى قمته ستكون مؤلمةً، لكنها خصبةٌ أيضاً، ففيها دروسٌ لا لسوريا وحدَها، بل كذلك للمجتمعات الأخرى، في المنطقة وخارجها، والتي تتعامل مع تغير المناخ بمساعدةٍ خجولةٍ من حكوماتها المتدهورة.
20 حزيران/ يونيو 2022
تم بكل امتنان استخدام العمل الفني: "الأرض الأم" للفنان أنس البريحي بموجب ترخيص منه.
تم انتاج هذا المقال بدعم من الاتحاد الأوروبي ودولة ألمانيا الاتحادية. إن محتوى المقال يقع على عاتق مسؤولية سينابس وحدها ولا يعكس بالضرورة آراء الجهات المانحة.