نسيج الصمود اللبناني

19 آذار / مارس 2018

إن "الصمود" الذي يشتهر به لبنان هو مبعث افتخار في الداخل وتعجب في الخارج في تفسيره لقدرة هذا البلد على مواجهة الأزمات التي كثيراً ما تعصف به، غير أن مناقشات كهذه تظل في معظمها مناقشات مجردة، وتستشهد بعوامل استقرار تتسم بالغموض في أحسن الأحوال: قطاع مصرفي قوي قائم على دينٍ عام متعاظم وغير مستدام؛ وروح بقاء وريادة تمكِّنُ المواطنين من تحصيل قوتهم بالرغم من وجود طبقة سياسية لا تقدّم لهم شيئاً، ومحسوبية تساعد الفصائل السياسية على إبقاء الناس واقفين على أقدامهم على حساب خدمات الدولة المتهالكة. في الحقيقة، يكمن السر الحقيقي للصمود الذي يتمتع به لبنان في مكان آخر: أي في تعبيرات تضامن متواضعة لكنها واسعة الانتشار إلى حد لا يرى فيها المعنيون أي خروج عن المألوف. بمعنى آخر، بالكاد يلاحظ الكثير من اللبنانيين تلك الأنظمة التي يعتمدون عليها قبل كل شيء.

ونتيجة لذلك، لا يزال التضامن بين اللبنانيين موضوعاً غير مدروس إلى حد كبير، فالعمل الأكاديمي يميل إلى التركيز على الأنشطة الخيرية الرسمية وإعادة التوزيع من أعلى الهرم إلى أدناه عبر القنوات السياسية والطائفية. يمكن القول إن الشيء المفقود هنا هو أهم جزء من اللغز، وهو أشكال الدعم الهائلة، وإن كانت غير مرئية ودقيقة، التي يمدّ بها اللبنانيون بعضهم بعضاً بشكل أفقي وغير رسمي، ما يوفر المرونة التي يحتاجونها للتغلب على الصدمات التي اعتاد عليها لبنان.

القرب 

ليس مفاجئاً أن التضامن في لبنان يتجلى بوضوح أكبر بين أولئك الذين يتمتعون بعلاقات شخصية متينة، علاقات يمكن توقع الكثير منها نظراً لتجذرها في الأوساط العائلية والدينية والاجتماعية التي تعتمد عليها الحياة في لبنان اعتماداً كبيراً. غالباً ما يعتمد اللبنانيون على الأموال التي يرسلها أقاربهم في المهجر لتغطية نفقات الصحة أو التعليم أو السكن، وعادة ما يشمل هذا الأقارب البعيدين. تعززُ دوائر الصداقة هذه الشبكات فيما وصفه شاب مقيم في بيروت بأنه تقسيم ضمني للعمل بقوله: "لقد دفع أحد أبناء عمي رسوم المدرسة لابن عم لنا من الدرجة الثانية؛ أما عندما يحتاج اللبناني إلى مبالغ أكبر، لدفع الرسوم الجامعية مثلاً، فإنه يلجأ عادة إلى الأصدقاء أكثر مما يلجأ إلى العائلة؛ فالأقارب أنسب لتقديم تبرعات أصغر، بينما يمثّل الأصدقاء مصدر القروض الأكبر."

في بعض الأحيان يعطي الأصدقاء بسخاء، وفي مقابل ذلك يتوقعون القليل أو لا شيء. يتذكر خبير تأمين ذو خلفية متواضعة من زحلة سنوات دراسته الجامعية: "ذات مرة منحني أحد أصدقاء العائلة 600 دولار لدفع رسوم الدراسة. لقد كنا قريبين جداً من بعضنا لأن كلينا شيوعيان." قام هذا الخبير برد الجميل بعد ذلك بسنوات بأن أرسل لصديقه هدية تساوي ذات المبلغ.

إن الأساس المنطقي لهذا الدعم واضح للغاية في أذهان الكثير من اللبنانيين: تبدأ العناية بالأقرب والأحب. استذكرت عالمة اجتماع لبنانية نقاشاً داخل صف دراسي: "عندما بدأنا الحديث عن مشاريع حياة الطلاب، قالت إحدى الفتيات إنها تريد الذهاب إلى الهند لتحذو حذو الأم تيريزا في مساعدة الفقراء. دُهش الجميع وسألوها عن سبب رغبتها في الذهاب كل تلك المسافة بينما يوجد في لبنان من هم بحاجة للمساعدة." يسارع البعض إلى الاستشهاد بأساس ديني ما، كالوصية المسيحية "أَحبَّ جارك كما تحب نفسك"، والتي يقابلها في الإسلام "الأقربون أولى بالمعروف".

ولذا دَرَج القول بأن التضامن محصور داخل حدود الطوائف، وهذا صحيح إلى حد أن لبنان بلد مقسم نسبياً، فكل منطقة تسكنها عادة واحدة من الطوائف الدينية الثمانية عشر الموجودة في البلاد، كما تميل العائلات، مع بعض الاستثناءات، إلى أن تكون عائلاتٍ متجانسة طائفياً إلى حد ما، مما يزيد من فرص مساعدة الموارنة للموارنة والسنّة للسنّة والشيعة للشيعة وهلم جراً.

لكن هذا التنوع يخلق أيضاً الكثير من الاستثناءات لهذا التوجه العام. في الواقع، غالباً ما يبدو أن القرب الفعلي - أي القرب الجغرافي - يتجاوز الاختلافات الاجتماعية والطائفية المتجذرة داخل مجتمع مجزأ للغاية ويغلب عليه التعصب؛ لذا يشعر الكثير من اللبنانيين بأنهم مكلفون برعاية المحتاجين الذين يجاورونهم في المبنى أو الحي أو القرية. غالباً ما يستفيد كبار السن أو المصابون بأمراض عقلية أو المحتاجون من العطايا الصغيرة التي يتصدق بها السكان المجاورون الذين يصنعون بذلك ما يشبه شبكة أمان اجتماعي. وَصَفَ مسيحي من بيروت العادة السائدة المتمثلة في دعم بواب المبنى، أو الناطور: "يساعد جميع المستأجرين ناطورنا المصري؛ فنقدم له أجوراً إضافية من أجل [الاحتفال بالعيد الإسلامي] كما نمنحه حرية استعمال مولد الكهرباء في المبنى أثناء انقطاع التيار الكهربائي."

كما هو متوقع، لا يعتمد هذا النوع من الألفة على القرب بمعناه المادي فحسب، بل على العلاقات التي جرى اختبارها بمرور الوقت أيضاً، وبالتالي، من الممكن أن يندمج العمال السوريون الموجودون منذ فترة طويلة في مجتمع لبناني ما (بغض النظر عن الخلفية الدينية)، في حين قد يكون هذا المجتمع نفسه رافضاً بقوة لوجود اللاجئين غير المألوفين. لقد ذهبت بعض القرى إلى حد فرض حظر التجول على السوريين دون غيرهم، وهو شكل من أشكال العداء والتمييز ضد الأجانب.

غالباً ما تدفع الروابط الشخصية حتى المنظمات الخيرية الدينية إلى التنسيق فيما بينها، إذ أصرّ رئيس جمعية خيرية إسلامية على أن الطائفية لا تعرقل وصول المساعدات إلى محتاجيها، ويقول في ذلك: "تلقت دار الأيتام لدينا ذات مرة مساعدة من [المنظمة المسيحية] كاريتاس، فرددنا الجميل بدعم عيني خلال أزمة اللاجئين العراقيين."

وبذلك يُبرز التضامن جانباً خفياً من جوانب المجتمع اللبناني ولكنه أساسي في ذات الوقت، تضامنٌ يتناقض تماماً مع بعض مزاياه الأكثر وضوحاً. من ناحية، يعترف اللبنانيون إلى أي مدى يمكن أن يكونوا بعيدين عن بعضهم البعض، حيث تحول بينهم ضروب شتّى من الاحكام المسبقة والفردانية التي تميل إلى حبسهم في دوائر ضيقة تتشابه في الفكر؛ أما من الناحية الأخرى، فإن بوادر الكرم والتعاطف والانفتاح، وإن كانت متواضعة لكنها مهمة وذات مغزى؛ هي واسعة الانتشار وتتخطى الانقسامات التي ترسم ملامح لبنان بوصفه بلداً طبقياً وطائفياً حتى النخاع.

تلعب هذه الأشكال المختلفة من القرب دوراً كبيراً في تحديد من يقدّم المساعدة ومن الذي يتلقاها، كما أنها تخدم وظائف عملية للغاية. القرب ضروري في تحديد الاحتياجات في بلد يحْجم فيه الأفراد عن البوح بها حرصاً على مكانتهم أو احترامهم لذاتهم. قال أحد أعضاء جمعية تابعة للكنيسة: "قابلتُ رجلاً اقترض مبلغاً كبيراً من المال لإقامة حفل زفافه، لكن ليس لديه القدرة المادية على تناول الطعام بانتظام. لن تعرف أنه فقير إلا في حال كنت تعرفه جيداً". في غضون ذلك، تفتقر دولة لبنان الغائبة إلى القدرة على التحقق من الفقر بدقة.

ولذا يعتمد تقييم الاحتياجات على المعرفة الدقيقة لكل حالة على حدة، ولا يملك هذه المعرفة إلا من هم داخل المجتمع نفسه. يلعب الجيران والممرضون والمعلمون دوراً أساسياً في اكتشاف مؤشرات الحرمان فيستجيبون لها عن طريق منظمات متخصصة أو في أكثر الأوقات من خلال مبادرات غير رسمية. وَصَفَ أحد العاملين السابقين في منظمة غير حكومية كيف تتولى الشبكات الاجتماعية الأمور التي تفشل فيها المؤسسات بقوله: "بينما كنت أقيّم احتياجات اللاجئين السوريين، قابلتُ عراقيين اشتكوا من الشعور بأنهم مهملين، ولذا قمتُ بتنظيم حملة لأجمع لهم الملابس، وسرعان ما راحت التبرعات تتدفق: كان الناس من حولي يحتفظون بالملابس منذ سنين في انتظار فرصة ليهبوها للفقراء."

كما يخدم القرب وظيفة أخرى لا غنى عنها، ألا وهي بناء الثقة اللازمة لآليات التضامن في بيئة يسودها غياب الثقة واللامبالاة. إن الناس؛ في الواقع، أكثر استعداداً للمساعدة عندما يوقنون بأن ما يقومون به مفيد، وبالتالي تراهم قد اعتادوا التبرع من خلال قنوات مألوفة وغير رسمية بدلاً من قنوات مهنية وغير شخصية. يقول أحد أعضاء نادي الروتاري اللبناني: "أردتُ توزيع صناديق أغذية خارج قضاء بيروت، ولذا طلبتُ من معارفي في مناطق مختلفة - وهم راهبة كاثوليكية وعضو درزي في النادي وقس ماروني - إعداد قوائم بأسماء المستفيدين، فهؤلاء لديهم المعرفة المحلية." وهكذا يشكل التضامن حلقة ذاتية التعزيز، ويتدفق من نسيج اجتماعي قوي فيعززه أكثر وأكثر.

الأفقية 

من الخصائص الأخرى لشبكات التضامن هذه هو ميلها إلى أن تكون غير هرمية، فالمانحون يظلون في كثير من الأحيان مجهولي الهوية أو متحفظين على الأقل، ويخفون الميل اللبناني نحو التباهي. علاوة على ذلك، غالباً ما يبذل المانحون جهداً إضافياً للتأكد من أن تبرعاتهم لا تحطّ من قدر المتلقين، وذلك عن طريق استخدام ذريعة الاحتفالات الدينية، أو اللجوء إلى الوسطاء، أو اعتبار لفتتهم هذه عملاً خيرياً، وفي ظروف أخرى من الممكن أن يحتاج المتبرعون نفسهم لهذا العمل الخيري. يؤكد أحد أعضاء جمعية خيرية إسلامية ذلك بقوله: "من المهم عدم الإساءة إلى من نحاول مساعدتهم. على سبيل المثال، بنك الملابس لدينا مفتوح أمام الجميع. الملابس على الرفوف وأولئك الذين يريدون شيئاً يختارونه بأنفسهم كما لو كانوا في متجر حقيقي."

وبالمثل، من المثير للاهتمام ملاحظة كم أنّ اللبنانيين لا يمدون يد العون لمن هم أقل حظاً منهم فحسب، بل لمن يقاسمونهم ظروفهم المعيشية ومصاعبها أيضاً. يدور التضامن إلى حد كبير حول التحديات الشائعة في الحياة، مثل وفاة معيل الأسرة أو إجراء عمل جراحي مكلف لإنقاذ روح ما أو مساعدة طفل معوق، كما ينطبق ذلك على الأفراح، فقد شرح أخصائي اجتماعي وضع قرية فقيرة نسبياً في البقاع كمثال بقوله: "ساهم الجميع في صندوق جماعي لمساعدة الأسرة على تنظيم العرس بدلاً من شراء الهدايا للعروسين لحفل زفافهما." يتصرف الواهبون والمتلقون كما لو كانت مواقفهم قابلة للتبادل، ما يخفف من الحَرَج المحتمل في مجتمع يقدر المكانة الاجتماعية أيّما تقدير.

لا يقتصر التضامن طبعاً على شكله الأفقي، أو على ذوي الموارد المتشابهة، وإنما تراه يتسرب خارج الحدود التقليدية بين الفقراء والطبقة الوسطى؛ ويرجع ذلك في جزء كبير منه إلى القرب القسري، فقد دفع غلاء أسعار العقارات العائلات ذات الدخل المتوسط نحو الأحياء الشعبية النائية، في حين أدى تدهور اقتصاد البلاد إلى تآكل الظروف المعيشية للغالبية العظمى من اللبنانيين؛ ومع ذلك، تعتمد منظمة مثل بنك الطعام اللبناني في الغالب على تبرعات عينية تُجمع من عامة اللبنانيين في محلات السوبر ماركت، وقد تذمر أحد أعضاء مجلس إدارته من مدى صعوبة جمع التبرعات من قبل الاغنياء.

تمثل آليات الدعم العضوية هذه، والأفقية بشكل أو بآخر، تناقضاً صارخاً لابد منه مع قنوات إعادة التوزيع ذات الصبغة الأكثر مؤسساتية حيث يكون التوزيع من أعلى الهرم إلى أدناه. تميل هذه القنوات، إلى حد كبير، نحو التناقض مع فكرة التضامن ذاتها بوصف تلك القنوات متجذرة في علاقات غير متكافئة أبداً بين المتبرع والمستفيد. أنشأ العديد من أصحاب المليارات ورجال الأعمال ممن تحولوا إلى سياسيين كسعد الحريري ونجيب ميقاتي ومحمد الصفدي، على سبيل المثال لا الحصر، مؤسساتٍ لتقديم الخدمات الخيرية، بيد أنها راحت تعمل كقنوات للرعاية السياسية في المقام الأول. ومن المفارقات أيضاً أنهم يغدقون أموالاً ليست من جيوبهم دائماً. أكد أحد الباحثين أن "هذه المؤسسات أصبحت جيدة جداً في جمع التبرعات في خارج البلاد، ما مكّن مؤسسيها من تقليل ما يساهمون به." تعمل الفرق السياسية؛ كحزب الله؛ بنفس الطريقة، حيث توفر الوظائف وغيرها من المنافع، ولكنها في مقابل ذلك تشترط الولاء لها.

يميز الكثير من اللبنانيين تمييزاً دقيقاً بين التضامن الحقيقي وتقديم الخدمات التي أضحت مذمومة إلى حد كبير في السياق اللبناني. يقول متطوع في الصليب الأحمر اللبناني: "أخذْنا رجلاً إلى المستشفى ذات مرة؛ فأراد شقيقه أن يقدم لنا المال، فقلتُ له: احتفظ بأموالك، وإن كنت تصر على ذلك، تبرع بها للصليب الأحمر المحلي عندما تعود إلى المنزل. بالنسبة لي، من المهم أن يعرف الناس أن بإمكانهم الاعتماد علينا بغض النظر عن أي شيء." وعلى العكس من ذلك، في ظل غياب أشكال مُرضية لإعادة توزيع الثروة التي تحركها الدولة، يرى الكثير من اللبنانيين أن الدعم السياسي من الأعلى إلى الأسفل هو نصيبهم العادل من الموارد الاقتصادية الوطنية التي تنهشها النخبة. لخّص مواطن مسيحي من حي الأشرفية هذه الحالة الذهنية بقوله: "في عيد الميلاد، أتلقى بضائع بقيمة 150 دولاراً، بضائعَ يسلّمها لي سياسي محلي في طرد غذائي. صحيح أني لستُ بحاجة إليها، لكن لماذا لا أستفيد منها؟ إنه غذاء مجاني يكفيني شهراً."

كما أن هنالك ظاهرة مختلفة؛ ولكنها تندرج في ذات السياق؛ تدور حول المفاهيم النخبوية للعمل الخيري، ظاهرة منفصلة وتتسم بالتنازل بحيث لا يمكن اعتبارها تضامناً في حد ذاته رغم أنها ليست محسوبة أو تبادلية كما هي حال الخدمات التي تقدمها الأحزاب السياسية. أعربت لبنانية ثرية عن استيائها من هذه الظاهرة بقولها: "أنا جزء من هذه الشبكة من النساء الأرمنيات الثريات اللواتي يطمحن إلى مساعدة الأطفال الفقراء. آخر مرة، جمعن الأموال لأخذ الأطفال إلى مدينة الملاهي KidzMondo... أمنطقٌ هذا؟ أتأخذ هؤلاء الأطفال في جولة لمدة ساعتين ليشاهدوا ما لن يحصلوا عليه طوال حياتهم؛ وهم لا يملكون أحذية لفصل الشتاء؟" كثيراً ما يحضُر اللبنانيون الميسورون الفعاليات الخيرية الكبيرة ويدعمونها، وقد صُمم العديد منها ليظهر الناس فيها سخائهم، بينما لا يبالون بمقدار النفع الذي يأتي منها في نهاية المطاف. في هذه الأثناء، أدى تنامي عدم المساواة إلى تحليق نخب تكدس حصة أكبر من الثروة في فقاعة بعيدة كل البعد عن المعاناة اليومية لعامة الشعب.

لقد أظهر المغتربون قدرة على دعم الأخلاقيات الشعبية المتواضعة الموصوفة أعلاه، فعلى سبيل المثال، تقدم مؤسسة غزال سنوياً ست منح دراسية لدعم الطلاب في جامعة القديس يوسف، أما منظمة LIFE، فتربط المديرين التنفيذيين الماليين في المهجر بالمواهب الشابة في الوطن، كما تجمع جمعية أمريكية من النساء اللبنانيات في مدينة ميامي الأموال كل عام للمساعدة في تمويل المدارس العامة، والقائمة تطول، ما يشير إلى أن المغتربين الناجحين قد يكونون أنسب لتقديم دعم حقيقي من نخب لها حصة مباشرة في الاقتصاد السياسي القائم على الافتراس إلى حد كبير.

المرونة

توفر شبكات التضامن شكلاً لا غنى عنه من المرونة في بلد تتركز فيه الثروة في القمة، بلدٍ لا ينتج نظام ضمانه الاجتماعي الوطني أو ضرائبه أي تصحيح حقيقي من خلال إعادة التوزيع. يقدم الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي صورة توضيحية غير متوقعة ومحزنة عن الافتقار لآليات إعادة توزيع حقيقية، فهو يعمل كحساب مصرفي فردي فقط: يستفيد الموظفون من نظام معاشات وتغطية طبية بقدر ما يساهمون في الصندوق ليس إلا، وبالتالي يتم القضاء على أي شكل من أشكال التضامن بين الأجيال أو بين القوى العاملة والعاطلين عن العمل.

على مستوى البلد، نادراً ما يحدث تداول للثروة من الأثرياء إلى الفقراء، فالمفهوم السائد بأن على اللبنانيين أن يعتمدوا على أنفسهم بدلاً من انتظار المساعدة أو حدوث تغيير في أعلى الهرم هو في جزء منه نتيجة للتقسيم المتزمت جداً للطبقات الاجتماعية في لبنان: فالتنقل مقيد لدرجة أن العديد من الشباب يشعرون بأنهم مضطرون لتجربة حظهم خارج البلاد. يكمن البديل الوحيد في تجميع الموارد داخل "مجتمعات تضامن" مخصصة لإعادة خلق قدر من المرونة الاقتصادية.

وبالتالي، فإن هذا الصمود يشكل تكتيكات عملية لا حصر لها؛ تكتيكات يستخدمها اللبنانيون لتغطية نفقاتهم والتغلب على ظروفهم الصعبة أكثر من كونها سمة لبنانية سحرية. في عام 2016، كشفت دراسة أجرتها منظمة أوكسفام، على سبيل المثال، كيف اعتادت المتاجر المحلية الاحتفاظ بعلامات تبويب لزبائنها الذين يقومون بتسويتها عند استلامهم رواتبهم. إن قروضاً كهذه، والتي عادة ما تكون بدون فوائد، هي في الغالب جزء من عدد كبير من وسائل خفية توفر مساحة إضافية لتنفس الأسر المحتاجة.

إن اللجوء إلى مثل هذه الحيل يمكّن لبنان من الاستمرار في التظاهر بامتلاك طبقة وسطى نابضة بالحياة، لكننا لو أمعنا النظر لرأينا مجموعة أفراد يؤدون العديد من الوظائف، والدَيْن يطاردهم، فيقلصون النفقات الأساسية مثل التأمين الشخصي، ويتكلون على شبكات أمان اجتماعي مرتجلة. يبدو لبنان بلداً متوسط الدخل على المستوى الكليّ فقط.

إن فكرة أن الطبقة الوسطى طبقة مدفوعة إلى نقطة الانهيار ليست بالفكرة الجديدة، ويمكن القول أن الحال هو هكذا منذ عقود خلت، ولكنها فكرة يجري اختبارها دائماً. الاقتصاد في حالة ركود في أحسن الأحوال، غير أن السياسيين يخفضون الإنفاق الحكومي، وحتى المحسوبية آخذة في التقلص، حيث تجد أحزاب البلاد أن الأموال تنفذ منها. قال أكاديمي يعمل في مدينة طرابلس: "قبل عقد من الزمن، كان الحريري يغطي فاتورتك الطبية بالكامل، أما اليوم، فيواجه الرعاة السياسيون ذاتهم نقصاً في التمويل. ما يمكنهم القيام به هو التمويل المطابق: سأدفع النصف إن جمعتَ النصف الآخر، وبذا يسد التضامن المحلي الفجوة ".

* * *

من نواح كثيرة، لبنان هو مجتمع مبني على تناقضات شديدة. حسبما هو متوقع، قد يبدو اللبنانيون في كثير من الأحيان كرماء وحساسين ومتعاطفين ومتواضعين ومؤمنين بالمساواة في تفاعلاتهم الاجتماعية بقدر ما يمكنهم أن يكونوا أنانيين ومزهوين ومتحيزين ومتنافسين. النظام السياسي مبني بشكل أساسي على التنافس، حيث يستغل كل حزب افتقار قاعدته للشعور بالأمن بدلاً من خدمة أية مصلحة من مصالح البلاد.

غير أن ما تخبرنا به آليات التضامن على مستوى القاعدة الشعبية هو أنه مع مثل هذا التشويه يأتي ثقل ذو أثر موازن يتمثل في قدرة المجتمع على تنظيم نفسه إلى حد يثير الدهشة، ووفقاً لقيم معاكسة تماماً. على هذا النحو، فإن ما يربط البلد ببعضه لا يتمثل بالهدنة الهشة التي توحّد أمراء الحرب المسنين في البلاد؛ والذين تحولوا إلى سياسيين، بل في مدى تعاضد اللبنانيين وتكاتفهم كعائلة واحدة أو كدائرة من الأصدقاء أو كحي واحد. 

روزالي بيرتر

قام بالترجمة للعربية حسان حساني 

 تم استخدام الصور من:

Rubber band ball by Eeprom Eagle
 بترخيص من:
 CC-BY-BA-2.5

الطريق الرقميّ إلى المواطنة الحقيقية في لبنان


The fabric of Lebanese resilience