سرقة لبنان الكبرى
14 نيسان/ أبريل 2020
.ستتضح قدرة لبنان على جذب الاستثمار الخارجي المباشر إن دققنا أكثر في أعداد الجنسيات العربية في قاعدة بيانات سنوات ما بعد الحرب. يوضح هذا الرسم البياني عدد المساهمين السعوديين والعراقيين والمصريين في الشركات اللبنانية الجديدة. على وجه التحديد، يبدو الاستثمار الأجنبي المباشر مرتبطا ارتباطاً وثيقاً بالاختلالات التي يسببها عدم الاستقرار والصراع في أماكن أخرى، فعلى سبيل المثال ارتبط تدفق المساهمين السعوديين بفترة رئاسة رفيق الحريري ولاحقاً نجله سعد كرئيسين للوزراء، ولكنه ارتفع كثيراً على ما يبدو عقب أحداث 11 أيلول / سبتمبر وما أعقب ذلك من إعادة الأموال السعودية المُستثمَرة في الولايات المتحدة وأوروبا إلى المنطقة العربية، بما في ذلك لبنان. كما ارتبط الارتفاع السريع في عدد المساهمين العراقيين بمستويات العنف في العراق منذ الغزو الأمريكي حتى انهيار أسعار النفط. أما الاستثمارات المصرية فقد بلغت ذروتها مع اندلاع الربيع العربي.
تتعلق واحدة من أكثر النتائج غير المتوقعة في مجموعة البيانات بآثار الحرب الأهلية السورية على الاقتصاد اللبناني، والتي تصوّرها الروايات الشعبية والحكومية على أنها آثار سلبية حصراً. تَظهر الطبيعة المترابطة للاقتصادَين السوري واللبناني بوضوح هنا، حيث يمثّل المواطنون السوريون إلى حد كبير أكثر رجال الأعمال الأجانب نشاطاً طوال تاريخ لبنان الحديث، ويفوق دورهم دور العرب الآخرين في كل فترة زمنية تقريباً، لا سيما في منتصف الستينات عندما حفّزت موجة التأميم في المنطقة نقل رأس المال إلى بيروت، ما أكسب لبنان تسمية "سويسرا الشرق الأوسط." غير أن الرسم البياني يشير إلى زيادة كبيرة في انتقال اللّاعبين الاقتصاديين في عام 2013 عندما وصلت الحرب الأهلية في سوريا نقطة مفصليّة، وعندما بدا أنها ستستمر لسنوات وستصبح أكثر تدميراً.
في قلب الاقتصاد اللبناني يكمن قطاع مصرفيّ كثيف بشكل استثنائي، قطاع نشأ في العصر الذهبي وكان محورياً في تشكيل صورة البلاد كمركز للخدمات المالية والخدمات الأخرى. بين عامي 1944 و1970 تم تأسيس ما لا يقل عن 52 مؤسسة مصرفية، وهي تمثّل نصف ما تأسس من جميع هذه المؤسسات حتى يومنا هذا. يوضّح الرسم البياني أعلاه نقطة مباشرة ولكنها حاسمة: إن تطوير القطاع المالي هو مسألة متعلّقة بسياسة الدولة، إذ تحدد القوانين والنُظم الجديدة مستوى نشاط هذا القطاع إلى حد كبير. المهم هنا هو النقطة المقابلة التي يوضحها الرسم البياني التالي.
ليست كل القطاعات مدفوعة بسياسة الحكومة في لبنان، فقد بقي قطاع النفط والغاز غير منظّم حتى عام 2010 بعد فترة طويلة من ظهور الاهتمام بهذه المسألة. والواقع أن هذا القطاع، على الصعيد العالمي، هو واحد من أكثر القطاعات ربحية، وإن تمّت إدارته بشكل جيد، فهو من أكثرها إنتاجاً من حيث خلق فرص العمل غير المباشرة. في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ظهرت نحو 200 شركة جديدة تذكر النفط في الوصف الخاص بها رغم غياب أي تشريع واضح. بهذا يكون إنشاء الشركات - التي تضم في بعض الحالات كبار السياسيين – قد سبق قيام الدولة بإضفاء الطابع الرسمي على القطاع بوقت طويل، الأمر الذي ما يزال غير مُكتملٍ حتى يومنا هذا. يعكس هذا التأخير كلفة وصعوبة إضفاء الطابع المؤسساتي على مثل هذه الصناعة المعقّدة، الأمر الذي يتطلّب جهاز دولة فعّال، وبهذا تخلّفت العمليات المؤسساتيّة عن آفاق المكاسب السريعة.
على النقيض من ذلك، يُعتبر قطاع العقارات قطاع مضاربات يتناسب تماماً مع الطبيعة الريعيّة للاقتصاد اللبناني. لا يُظهر هذا الرسم البياني ارتفاعاً في الشركات العقارية في حد ذاتها، بل الاهتمام المتذبذب في شراء وبيع وتأجير العقارات من جانب الشركات بجميع أنواعها. أدرجت الشركات التي تَظهر هنا بعض الإشارات إلى المعاملات العقارية في وصفها التجاري، وهو ما درجت عليه العادة عندما حلّ الاقتصاد الريعي بعد الحرب الأهلية وراح يتطور بشكل كبير بالرّغم من اغتيال الحريري عام 2005 وحرب 2006 مع إسرائيل، وبلغ ذروته بين عامي 2008 و2014. أدى ارتفاع الأسعار المُصطنع إلى خلق دينامية طويلة الأمد وحرمان قطاعات الاقتصاد الأكثر إنتاجية من الاستثمارات المحتملة.
.إن الأزمة الاقتصادية في لبنان في طور التكوين منذ زمن بعيد، إذ أدّت كل من الطفرة التي رافقت الحرب كما والاقتصاد الريعي إلى إخفاء نقاط الضعف الهيكلية في البلاد وعززتها في آن معاً. يوضّح الرّسم البياني الأخير أسباب الإفلاس الفعلي وتوقيته، ويسلّط الضوء على الانفجار المفاجئ للشركات المكرّسة للمضاربة على ديون البلاد السياديّة عن طريق شراء سندات الخزانة بأسعار فائدة متضخمة وغير مستدامة. غالبية هذه الشركات هي خارج البلاد وبالكاد تدفع الضرائب وبالتالي تجسد الطبيعة الاستغلالية وغير المُنتجة للاقتصاد اللبناني.
يعكس هذا المنحنى بدقة بالغة تطوّر التصنيفات الائتمانية الدولية للبنان. في عام 2008، تحوّلت التوقعات من مستقرّ إلى إيجابي. في عام 2009، مُنح لبنان درجة B2، وتحسّن إلى B1 في العام التالي. بحلول عام 2013 عادت التوقّعات إلى سلبية، وشهد عام 2014 أول تخفيض في التصنيف في سلسلة تخفيضات أدّت في نهاية المطاف إلى حصول البلاد على تصنيف "مرتفع الخطورة"، ما أنذر المستثمرين بأنه من غير المحتمل استرداد سنداتهم، وأدى بالتالي إلى ردع الاستثمارات المستقبلية.
عكَس الانتعاشُ قصير الأمد في عام 2017 الهندسة المالية المكثفة التي دبّرها البنك المركزي والتي راحت تُعرف باسم "المقايضات" والتي كانت تهدف إلى إعادة السيولة بالدولار إلى البنك المركزي. منذ ذلك الحين، أعاد لبنان توزيع عائدات مرتفعة بشكل متزايد على المنتجات المالية المستمدّة من الديون السيادية في محاولة للحفاظ على فقاعة المضاربة التي كانت قد بدأت بإعطاء كل علامات الانفجار. كان لنشر مثل هذه المؤشرات في ذلك الوقت أن يوضّح هذا الأمر للجميع.
إن الطفرة الأصلية لعام 2008، والتي ارتبطت جزئياً بالأزمة الاقتصادية العالمية، تتوضّح على أفضل وجه إذا نظرنا لها من منظور السياسة المحلية، ففي ذلك العام وقّعت الفصائل اللبنانية على اتفاقية الدوحة، لتنهي بذلك مرحلة من الاستقطاب السياسي المتطرّف والعنيف. بعد ذلك، استقرت الأحزاب اللبنانية الرّائدة على صيغة غير مسبوقة لتقاسم السلطة شملت جميع الفصائل التي انبثقت من الحرب الأهلية. للمرة الأولى منذ عقود، لم تخضع البلاد لإملاءات أجنبية ولم يُصبها الشلل بسبب النزاع الداخلي، نزاع وإن كان مسبّباً للضعف، غير أنه فرض ضوابط معينة على الرأسمالية غير المنظمة والقائمة على المحسوبية.
ألغت حكومة الوحدة الوطنية التي شُكّلت في عام 2008 هذه الضوابط، ودشّنت اقتصاداً متاحاً للجميع. لكنها فشلت في صياغة أية سياسة اقتصادية واضحة، وتعثّرت في جميع الإصلاحات التي وعدت بها، متغاضية عن حمّى استثمار كانت جائزتها مقدّرات البلاد الحالية والمستقبلية.
روزالي بيرتر
قام بترجمة النص للعربية حسان حساني
تم استخدام الصور من: vice.city by Patricio Betteo حقوق النشر محفوظة: 2016-2020 Betteo.