حرب الغرب على نفسه 

الحقائق المرَّة للمكافحة النَّاعمة للإرهاب

بيتر هارلينغ وأليكس سايمون وبين شونفيلد

على مدى السَّنوات القليلة الماضية، أصبح للمفهوم الغامض "منع التَّطرُّف العنيف" دور تنظيميٌّ كبير في صنع السِّياسة الخارجيَّة الغربيَّة، بالرَّغم من أنَّ قلَّة من النَّاس قد سمعوا به، ما عدا حفنةً من السِّياسيِّين والدُّبلوماسيِّين والأكاديميِّين وعمَّال الإغاثة. تُعقد مؤتمرات واجتماعات لا تُحصى عن "منع التَّطرُّف العنيف"، وتُكتب عنه تقارير، وتُموَّل مشاريع؛ يؤدِّي بعضها إلى زيادة الغموض فيما يتَّصلُ بالحالة الرَّاهنة للشُّؤون الدَّوليَّة، في حين يساعد بعضها الآخر في توضيح هذه الحالة.

حتَّى بين المتخصِّصين، قلَّة أولئك الَّذين باستطاعتهم تعريف هذا المفهوم، وأقلُّ منهم أولئك الَّذين باستطاعتهم توضيح الفرق بين مفهوم "منع التَّطرُّف العنيف" وابن عمِّه "مواجهة التَّطرُّف العنيف". في الواقع، غالباً ما يُستخدم المصطلحان استخداماً متبادلاً، أو يجري مزجهما في مفهوم واحد أكثر غموضاً، ألا وهو "مواجهة/ منع التَّطرُّف العنيف". (من الآن فصاعداً، من أجل الوضوح والاتِّساق، سنستخدم مفهوم "منع التَّطرُّف العنيف" فقط، إلَّا في حال ورد مصطلح آخر ما في اقتباساتٍ مباشرةٍ). غالباً ما يُنظر إلى هذه المفاهيم على أنَّها مكمِّلٌ ناعم لمواجهة الإرهاب عسكريًّا، مكمِّلٌ يعتمد على مجموعة واسعة من أدوات التَّدخُّل المدنيِّ، من قبيل مواجهة الخطاب المتطرِّف وتمكين الشَّباب والنِّساء، والحدِّ من البطالة وتحسين الحُكم حول العالم، لكنْ لا يوجد حتَّى الآن دليلٌ ملموس على أنَّ "منع التَّطرُّف العنيف" يجدي نفعاً، وتزداد المخاوف من أنَّ ضَرره قد يفوق نفعه، وهو ما يطرح سؤالاً جوهريًّا: كيف استحوذ هذا التَّأويل الضَّبابيُّ، وغير الفعَّال على ما يبدو، على صنَّاع السِّياسة في الغرب؟ 

للإجابة عن هذا السُّؤال أهمِّيَّة أكبر بكثير ممَّا تشي به المصطلحات الرَّقيقة المرتبطة بـمفهوم "منع التَّطرُّف العنيف"، إذ يحمل تطوُّر مفهوم "منع التَّطرُّف العنيف" دروساً مهمَّة من الهيمنة المتزايدة للمنظور الأمنيِّ، وآثاراً مترتِّبة على سياسات الغرب العامَّة، فالطَّبيعة الحميدة والخفيَّة لهذا المفهوم تجعله أكثر خبثاً ومكراً؛ لأنَّه يُعيدُ بهدوء صياغةَ ملامح مجموعة متنوِّعة من مسائل السِّياسة الحاليَّة ورسمَها من منظور مكافحة الإرهاب، كوسائل الإعلام وحقوق الإنسان الأساسيَّة، وحتَّى تربية الأولاد.


الطَّبيعة الخفيَّة لهذا المفهوم تجعله أكثرَ مكراً وخبثاً

يتَّضح الأثر المتزايد لهذا التَّوجُّه فيما يُسمَّى بـ "العالم الجنوبيِّ"؛ إذ راح نموُّ "منع التَّطرُّف العنيف" يحشد مبادرات مدنيَّة تهدف إلى تعزيز التَّقدُّم الاجتماعيِّ والاقتصاديِّ، وأحد الأمثلة على ذلك هو الشَّرق الأوسط، وفي هذا الشَّأن يقول مسؤول في الاتِّحاد الأوروبيِّ: "في نهاية المطاف، المواضيع الثَّلاثة الوحيدة الَّتي آمل أن أحصل على تمويل من أجلها هي الهجرة وإصلاح القطاع الأمنيِّ والتَّطرُّف العنيف". وبالمثل، يقول عامل في منظَّمة غير حكوميَّة مقرُّها الأردن: "جاءت امرأة من السَّفارة الكنديَّة إلى مكتبنا، وسألت عمَّا إذا كنَّا نقوم بمشاريع من أجل "مواجهة التَّطرُّف العنيف". قلتُ لها: إنَّنا نحاول أن نجعل الأردن مجتمعاً أكثر شمولاً وذا حكمٍ رشيد، وهو ما قد يساعد في الحدِّ من الانجراف نحو التَّطرُّف ... فطلبت أن نتَّصل بها إن نحن بدأنا في مواجهة التَّطرُّف العنيف." 

والأهمُّ من ذلك أنَّ هذه التَّوجُّهات لا تتَّضحُ في المناطق النَّائية من العالم فحسب، ففي العالم الغربيِّ، يغذِّي التَّركيز المتزايد على مسألة الأمن في الخارج عقليَّة الانكفاء والانغلاق ورهاب الأجانب المَرضيِّ الآخذةَ في التَّعاظم، والتَّفكيك التَّدريجيَّ للمعايير الَّتي نسعى إلى الذَّود عنها، ففي هذه العمليَّة اللَّاشعوريَّة في معظمها، يُعَدُّ "منع التَّطرُّف العنيف" عنصراً غريباً ولكنَّه مساعدٌ بالضَّرورة.

تلك اللحظة الحرجة 
تحرير الحرب على الإرهاب 

ارتبطت الحرب على الإرهاب في العالم الغربيِّ في الأصل باليمين المحافظ، وتبلور هذا الارتباط في السَّنوات الخمس الَّتي أعقبت هجمات تنظيم القاعدة على الأراضي الأمريكيَّة في 11  أيلول / سبتمبر 2001، حيث راح من يَصفون أنفسهم باللِّيبراليِّين يربطون الحرب على الإرهاب بالغزو الكارثيِّ للعراق على يد الرَّئيس جورج دبليو بوش، وبمجموعة من ممارسات عُدَّتْ مناقضة للقيم الغربيَّة، من قبيل تكثيف المراقبة الدَّاخليَّة والتَّعذيب الَّذي راح يُطلق عليه تلطيفاً "الاستجواب المعزَّز" وعمليَّات القتل خارج نطاق القضاء و"عمليَّات التَّسليم الاستثنائيَّة" (أي الاستعانة بأنظمة استبداديَّة متعاونة لاستجواب المشتبِّهين بالإرهاب).

كانت عاقبة هذا الأمر كبيرة لدرجة أنَّ الأمريكيِّين في عام 2008 انتخبوا مرشَّحاً رئاسيًّا قدَّمَ نفسه صراحة على أنَّه النَّقيض اللِّيبراليُّ لنهج سلفه بوش: كان من المتوقَّع أن يُنهي باراك أوباما الحروب تدريجيًّا، ويكبح عموماً التَّجاوزات غير اللِّيبراليَّة الَّتي حدثت في حقبة سلفه، أمَّا بقيَّة دول العالم الغربيِّ، فقد أشادت بزعيم أبدى استعداداً لتصحيح ذلك الإرث بعد أن كانت قد استهجنت جميعها تقريباً الحرب على الإرهاب كونها تقوِّض الاستقرار العالميَّ. 

طرأ تغيير شكليٌّ مدَّته ثمانية أعوام على صراع أزليٍّ لا حدود له 

من اللَّافت للنَّظر أنَّه بحلول نهاية الولاية الثَّانية للرَّئيس أوباما كانت الحرب على الإرهاب لا تزال في أشدِّها، إذ ظلَّت الولايات المتَّحدة منخرطة في سلسلة من الحروب الغامضة في أفريقيا والشَّرق الأوسط وآسيا، رغم أنَّ نزعة بوش لتغيير الأنظمة استُبدلت باعتماد متزايد على الضَّربات الجويَّة والطَّائرات الفتَّاكة بدون طيَّار، وقد انضمَّت غالبيَّة الحكومات الغربيَّة إلى هذا التَّوجُّه، أو أطلقت عمليَّات عسكريَّة بنفسها كما فعلت فرنسا، وأجمع هؤلاء جميعاً على تأكيد مجازيٍّ متعاظم على معالجة "الأسباب الجذريَّة" للتَّطرُّف، وذلك لإخفاء أوجه القصور الواضحة لتدخُّلاتهم. خلاصة القول أنَّ المؤشِّرات الرَّئيسيَّة لنزاع عسكريٍّ أزليٍّ لا حدود له ما تزال موجودة، إلَّا أنَّها شهدت تغييراً شكليًّا استمرَّ ثمانية أعوام، تغييراً هدَّأ الضَّمائر الغربيَّة المضطربة.

وهنا تجدر الإشارة إلى أنَّ "الغرب" هو مفهوم غامض عموماً وإيديولوجيٌّ للغاية وحديث نسبيًّا، ويدور حول نظامِ قيمٍ فضفاض يُعدُّ "ليبراليًّا" عموماً، ويَجمع بين الحكومة التَّمثيليَّة وسيادة القانون والحرِّيَّات الفرديَّة والملكيَّة الخاصَّة والتِّجارة الحرَّة والدُّول التَّنظيميَّة، بالرَّغم من وجود فروقات وطنيَّة وحزبيَّة. إنَّ النَّظرة اللِّيبراليَّة للعالم مرنةٌ بطبيعتها وعرضةٌ لجملة من التَّناقضات والمعايير المزدوجة، خاصَّة عندما يتَّصل الأمر بالشُّؤون الدَّوليَّة، إذ كثيراً ما يُحتجُّ باللِّيبراليَّة، على سبيل المثال، لتبرير العنف في مكان ما وشجب العنف ذاته في مكان آخر. 

استثمر أوباما في شبح الإرهاب المبالغ فيه

بالرَّغم من كونها مرنة وفضفاضة، أثبتت فكرة اللِّيبراليَّة دورها التَّنظيميَّ والهيكليَّ الكبير في كيفيَّة تصوُّر الدُّول "الغربيَّة" لنفسها وتنظيمها الدَّاخليِّ وتفاعلها مع باقي العالَم، وفي كيفيَّة نظر باقي العالم لها. في الواقع، تدعم هذه المفاهيم مجموعة واسعة من المعايير الدَّوليَّة الَّتي كَرَّستها الأمم المتَّحدة، رغم أنَّ هذه المعايير غالباً ما تُنفَّذ تنفيذاً انتقائيًّا. بعبارة أخرى، الأجندة اللِّيبراليَّة مؤثِّرة بقدر ما هي طموحة وحالمة، أي إنَّها دعامة رمزيَّة في صرح الهويَّة الغربيَّة، دعامة تزداد أهمِّيَّتها بالنَّظر إلى مرونتِها، بالرَّغم من عدم اتِّساقها.

دفعت سياسة بوش الخارجيَّة هذا التَّوتُّر إلى نقطة الانهيار بعد أن راحت الولايات المتَّحدة وحلفاؤها يستخفُّون استخفافاً متزايداً بالمبادئ الأساسيَّة للنِّظام اللِّيبراليِّ الَّذي ادَّعوا صونَه والذَّود عنه، تُضاف هذه الدِّيناميَّة إلى الواقع الصَّارخ بأنَّ الحرب على الإرهاب تسبَّبت بتكاليف ماليَّة وبشريَّة هائلة وأساءت إلى سمعة الغرب دون تحقيق أيِّ شكل من أشكال النَّصر.

في البداية، انبرى أوباما - الرَّئيس الشَّابُّ والعالميُّ الَّذي يحمل رسالة من التَّواضع وضبط النَّفس- لتصحيح هذا الخطأ، فسَحبَ بعض القوَّات من العراق، وخفَّض حجم المهمَّة في أفغانستان، وقلَّص حجم سجن غوانتانامو سيِّئِ الصِّيت، لكنَّه لم يغلقه إغلاقاً نهائيًّا، غير أنَّ أوباما ومستشاريه، إلى جانب مسؤولي الدِّفاع والاستخبارات، استثمروا في شبح الجهاديَّة الَّذي عفا عليه الزَّمن والمسيَّس للغاية، وبذلك جعلوا الحرب على الإرهاب تستمرُّ وتتطوَّر. بالنِّسبة إلى إدارة أوباما، كان هذا يعني تكثيف التَّأكيد الخطابيِّ على معالجة الأسباب الكامنة للإرهاب العابر للحدود، وقد دُمج هذا الهدف الأخير، بدءاً من عام 2010 تقريباً، في مفهومَي "مواجهة التَّطرُّف العنيف" و"منع التَّطرُّف العنيف" اللَّذين يجري تطبيقهما على الجهاديَّة العابرة للحدود، وكذلك على القائلين بتفوُّق العرق الأبيض والأشكال الأخرى من العنف الإيديولوجيِّ في الولايات المتَّحدة نفسها.

غير أنَّ "منع التَّطرُّف العنيف" كان سيبقى مفهوماً تكنوقراطيًّا غامضاً لولا الصُّعود المُذهل لتنظيم الدَّولة الإسلاميَّة وبثُّها مقطعَ فيديو يَظهر فيه قطعُ رأسِ رهينةٍ أمريكيٍّ في آب/ أغسطس 2014، ما جعل فورة المقاتلين الجهاديِّين في العراق وسوريا في صُلب السِّياسة الخارجيَّة الأمريكيَّة، حينئذ تولَّى الرَّئيس أوباما دفَّة تحالف كبير راح يقصف العدوَّ لإجباره على الخضوع، وهكذا وَجد مفهوم "منع التَّطرُّف العنيف" سببَ وجوده في حين اِرْتَكَسَ العالم الغربيُّ إلى وضعيَّة تدخُّلٍ عسكريٍّ واسع النِّطاق.

كلَّما تغيَّرت الأشياء أكثر... 

جاءت نقطة التَّحوُّل في هذا التَّطوُّر في شباط/ فبراير من عام 2015 عندما عقد البيت الأبيض قمَّةً استمرَّت ثلاثة أيَّام حول موضوع مواجهة التَّطرُّف العنيف في أعقاب الهجوم الإرهابيِّ الَّذي استهدف صحيفة (تشارلي إبدو) في باريس في الشَّهر الَّذي سبقه، واجتمع الأعضاء والأصدقاء والحلفاء في العالم الغربيِّ على الحاجة إلى فهمٍ أفضلَ لهذه الظَّاهرة، وإلى صوغ خطابات مضادَّة فعَّالة، وتركيز كفاحهم على دعمٍ أكبرَ للمجتمعات المتضرِّرة، وقد نتجَ عن هذا الاجتماع موجةٌ من الفعاليَّات الدُّبلوماسيَّة، فبحلول كانون الثَّاني / يناير 2016، أعلنت الأمم المتَّحدة عن خطَّةِ عملِها لمنع التَّطرُّف العنيف وأدرجتها في قرار لمجلس الأمن، خطَّةٍ راحت تُردَّد في مؤتمرات القمم وتُرجمت إلى استراتيجيات وطنيَّة مختلفةٍ تهدف إلى "منع التَّطرُّف العنيف" وإلى آليَّات تمويل دوليَّة سخيَّة، وقد لخَّصَ مسؤول في وزارة الخارجيَّة هذه العمليَّة الفخمة بقوله:

"لقد جلبنا ما بين 60 إلى 70 من القادة للتَّحدُّث عن التَّطرُّف العنيف، وقد أثار ذلك كثيراً من الحماس لدى دول عرضت عقد مؤتمرات بنفسها، كألبانيا وأستراليا وكازاخستان ... لقد كان صيفَ القمم، ثمَّ قمنا بتجميع كلِّ شيء في مشروع من أجل "منع التَّطرُّف العنيف" وسلَّمناه إلى الأمم المتَّحدة الَّتي خرجت بخطَّة عمل بهدف "منع التَّطرُّف العنيف"، أو برنامج عمل "منع التَّطرُّف العنيف"، واتَّفقنا أنَّ على كلِّ بلد أن يعمل على وضع خطَّة عمل وطنيَّة لتنفيذ نقاطه الواحدة والسَّبعين."

من اللَّافت للنَّظر كم كان مفهوم "منع التَّطرُّف العنيف" غير أصيلٍ نظراً لكميَّة الجلبة والضَّجَّة الَّتي أحاطت به من قبل، فطوال فترة رئاسته، دعا جورج دبليو بوش إلى معالجة الظُّروف السِّياسيَّة والاقتصاديَّة الَّتي تغذِّي الإرهاب، بما في ذلك دعم المجتمعات المدنيَّة والضَّغط على الحكومات الاستبداديَّة للقيام بإصلاحات، وبالرَّغم من تنصُّلِ أوباما من عنصر تغيير النِّظام الَّذي كان موجوداً في "أجندة الحريَّة" الَّتي وضعها جورج بوش، ظلَّ المنطق الأساسيُّ ثابتاً إلى حدٍّ كبير، منطقٌ تطلب فيه مكافحة الإرهاب التَّعامل مع المشاكل المستفحلة في الخارج.

قال مدير منظَّمة أمريكيَّة غير حكوميَّة تعمل في مجال "منع التَّطرُّف العنيف": "من الصَّعب القول متى رأى هذا المفهوم النُّور، ولكنَّه طُوِّرَ في الأساس من قبل وزارة الخارجيَّة في عهد الرَّئيس بوش بهدف إنشاء إطار يمكن للبنتاغون فهمه" من أجل العمليَّات خارج مناطق الحروب. اكتسب المنطق الَّذي يقوم عليه "منع التَّطرُّف العنيف" زخماً في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ومنتصفه، فقد أدَّت الانتكاسات في العراق وأفغانستان إلى ازدياد الوعي فيما يتَّصل بحدود القوَّة العسكريَّة، ما أدَّى إلى وضع الأمم المتَّحدة استراتيجيَّةً لمكافحة الإرهاب في عام 2006 شَدَّدت على الإجراءات الوقائيَّة، وبدت مسوَّدةً أولى للوثيقة الَّتي أصدرتها الأمم المتَّحدة بعد عقد من الزَّمن، وقد علَّق مسؤول في وزارة الخارجيَّة الأمريكيَّة على ذلك قائلاً: "في الوقت الحاضر، يمكن أن نُطلق تسمية "مواجهة التَّطرُّف العنيف" على استراتيجية العام 2006". 

من اللَّافت للنَّظر كم كان مفهوم "منع التَّطرُّف العنيف" غير أصيل؛ نظراً لكميَّة الجلبة والضَّجَّة الَّتي أحاطت به من قبل.

في هذه الأثناء كان الغائب الأبرز طيلة طرح خطَّة "منع التَّطرف العنيف" هو أيَّة محاولة موثوقة لترجمة المفهوم إلى مجموعة متماسكة ومتناسقة من السِّياسات، وفي ذلك قال خبير في الحكم يقيم في واشنطن في شباط 2017: "ما يميِّز مفهوم "منع التَّطرُّف العنيف" هو أنَّه من ناحية لا يزال مُبهَماً للغاية، وأنَّ كمًّا غير متناسب من المال يُصرَف عليه من ناحية أخرى، وبلا شكٍّ يشكِّل هذان الأمران معاً إشكاليَّة". وبالمثل، في نيسان من عام 2017، صَرَّح مكتب محاسبة الحكومة الأمريكيَّة - وهو هيئة رسميَّة للرَّقابة على الإنفاق – أنَّه "لم يكن قادراً على تحديد ما إذا كانت الولايات المتَّحدة في وضعٍ أفضلَ اليومَ ممَّا كانت عليه في عام 2011"، عندما قدمت الأنموذج الوقائيَّ لأوَّل مرَّة رسميًّا، وأضاف المكتب: "يعود السَّبب في ذلك إلى عدم وضع استراتيجيَّة متماسكة ومُحكَمة وذات نتائج قابلة للقياس"، هذا الاستنتاج ينطبق على الصَّعيد العالميِّ أيضاً. 

رغم عدم الوصول إلى نتائج ملموسة، خدم "منع التَّطرُّف العنيف" غرضاً واضحاً، ألا وهو إعطاء الانطباع بـ "القيام بشيء ما" بطريقة يُفترض أنَّها تختلف عن تلك الَّتي اتَّبعتها الإدارة السَّابقة، فقد أوضح مدير المنظَّمة غير الحكوميَّة المُشارُ إليه أعلاه إلى أنَّ هذا العامل كان موجوداً منذ بداية ولاية باراك أوباما، إذ يقول: "كان مفهوم "مواجهة التَّطرُّف العنيف" يدور حول رغبة أوباما في تقليص البُعد العسكريِّ للحرب على الإرهاب، لذا كان لا بدَّ من القيام بشيء ما بديلاً"، وردَّدَ مستشار آخر يعمل على "منع التَّطرُّف العنيف" هذه الفرضيَّة بقوله: "كلَّما أتت إدارة جديدة فإنَّها تريد حلولاً مبتكرة، ولذا يضعون طبقة جديدة من الطِّلاء على ما تمَّ القيام به مسبقاً"، وقد أدى صعود تنظيم الدَّولة الإسلاميَّة إلى زيادة هذه الضَّرورة زيادة كبيرة.

ومن ثمَّ فإنَّ "منع التَّطرُّف العنيف" هو أوَّلاً وقبل كلِّ شيء أداة سرديَّة، أي أو أداة تُستخدم لا شعوريًّا إلى حدٍّ كبير لإضفاء شرعيَّة جديدة على الحرب على الإرهاب الَّتي ساء صيتها بحلول العام 2008. على نحو أدقَّ، يبدو أنَّ "منع التَّطرُّف العنيف" يخفِّف الغضب الَّذي يُشعَر به أثناء اتِّباع سياسات تتعارض بوضوح مع القيم اللِّيبراليَّة الغربيَّة، وذلك بتغليف المكافحة القاسية للإرهاب بلغة لطيفة، بهذا المعنى يُجدِّد مفهوم "منع التَّطرُّف العنيف" تقليداً قديماً. 

الاستمراريَّة التَّاريخيَّة
من التَّهدئة إلى "منع التَّطرُّف العنيف"

تعود جذور "منع التَّطرُّف العنيف" والحرب على الإرهاب في الواقع إلى نزعةٍ دامت قروناً من الزَّمن في معظم المجتمعات - الغربيَّة وغير الغربيَّة على حدٍّ سواء - لتصوير نفسها على أنَّها في صراع وجوديٍّ شبه دائم؛ وذلك بهدف إخفاء غايتها الحقيقيَّة المتمثِّلة في السَّيطرة على موارد الغير أو مواجهة خصومها. يتطلَّب هذا منها تصوير هذا الصِّراع بأنَّه إيجابيٌّ وشرعيٌّ ويهدف إلى استعادة ما سُلِبَ منها، ودفاعٌ عن قيمها، وتهدئة القلاقل وتحقيق الاستقرار ونشر التَّنوير وتحرير الشُّعوب، إذ نادراً ما تُفصِح هذه المجتمعاتُ بلا استحياء عن أهدافها الحقيقيَّة المتمثِّلة في اجتثاث الغير والسَّطو عليه وسلبه، حالها في ذلك حال معظم أشكال الغزو والاستعمار الَّتي قامت على فكرة أنَّ هناك عدوًّا تجب هزيمته وشعباً يستجدي الخلاص.

من منظور "منع التَّطرُّف العنيف"، أحد الأطوار وثيقةِ الصِّلة بهذه السِّلسلة المستمرَّة هو تطوُّرُ عقائد مكافحة التَّمرُّد على يد القوى الاستعماريَّة الأوروبيَّة في القرن العشرين، عقائد اعتمدتها الولايات المتَّحدة فيما بعد، ففي سعيها إلى تهدئة المجتمعات المتمرِّدة، عملت الدُّول الغربيَّة على الدَّمج بين أدوات القوَّة الصَّلبة وتلك اللَّيِّنة، فاستعملت هذه الدُّول القوَّة العسكريَّة المباشرة عند الضَّرورة، لكنَّها فضَّلت الاستعانة بحلفاء محلِّيِّين للقيام بمثل هذا العمل القذر فيما تفوز هذه الدُّول، قدر الإمكان، بقلوب الشُّعوب التي أخضعتها وعقولها. جمعَ هذا المشروع الأخير بين مزيج من الحوافز الماديَّة - لا سيَّما من خلال تقديم الخدمات ووظائف الحكم الأخرى- والدِّعاية الَّتي تُبرِز الفرقَ بين قوَّة خارجيَّة خيِّرةٍ وخصوم محلِّيِّين خبثاء وأشرار. يعتمد "منع التَّطرُّف العنيف" اعتماداً كبيراً على منطق واستراتيجيات وتكتيكات عقائد كهذه، مع أنَّها لم تُثبت أبداً فعاليتها في إرساء سيطرة دائمة حاسمة على السُّكَّان.

نحن نقاتل من أجل استعادة ما سُلب منَّا والدِّفاع عن قيمنا والتَّهدئة وتحقيق الاستقرار والتَّنوير والتَّحرير

في الواقع، إنَّ أفضل فهم لمفهوم "منع التَّطرُّف العنيف" هو أنَّه سليل مفهوم مكافحة التَّمرُّد وتقاليد غربيَّة أخرى، أي أنموذجات حقوق الإنسان والتَّنمية الَّتي ازدهرت خلال الحرب الباردة، والتي شكَّلت فصلاً غامضاً للغاية في تاريخ بروز القوَّة العظمى، ولا شكَّ في أنَّ المساعدات الأمريكيَّة الخارجيَّة أسهمت في النُّموِّ الاقتصاديِّ في أجزاء من العالم خلال النِّصف الثَّاني من القرن العشرين وساعدت على توسيع جوانب سيادة القانون في بعض الأماكن، غير أنَّ هذا النِّظام اللِّيبراليَّ نفسه شابته التَّناقضات، فقد اعتمدت الولايات المتَّحدة على لغة تحقيق التَّقدُّم لشيطنة أعدائها، بينما قامت بإخفاء انتهاكاتها وتلك الَّتي يرتكبها حلفاؤها، ودعمت أنظمة فاسدة وفاشلة لا لشيء سوى لأنَّها كانت على الجانب الصَّحيح من التَّنافس الأمريكيّ- السُّوفييتيِّ، كنظام موبوتو رئيس الكونغو، وفي ذلك قال محلِّل أمنيٌّ أمريكيٌّ معلِّقاً على مدى الدَّرجة الَّتي غالباً ما تخدم بها المساعدات المدنيَّة الغربيَّة أغراضاً عسكريَّة في المقام الأوَّل:

"إنَّ الغرض من المساعدة الإنمائيَّة الأمريكيَّة ليس التَّنمية عادة، بل القدرة على الوصول، فنحن نموِّل الحكومات لكي تسمح لنا بالعمل على أراضيها، لم يخطر ببال أيِّ أحد أنَّ مساعدتنا لباكستان ليست سوى رشوة". 

جاءت ذروة الأجندة اللِّيبراليَّة في العقد الَّذي تلا الحرب الباردة، ففي ظاهرها، شهدت التِّسعينات صراعات أقلَّ عدداً وأقلَّ فتكاً؛ وانسجاماً دوليًّا أكبر (وإن كان انسجاماً على مضض)، وشبكة متنامية من المعايير المُعولَمة الَّتي يقودها الغرب، وكان من الآثار الجانبيَّة الغريبة لهذه اللَّحظة أحادية القطب أنَّ المعسكر الغربيَّ- الَّذي كان يفتقر إلى عدوٍّ وجوديٍّ يبني عليه علاقاته بالعالم– راح يُنتج مجموعة متعاظمة من أطر السِّياسة الخارجيَّة المجرَّدة. إنَّ مكافحة التَّمرُّد ودعم الدِّيمقراطيَّة وبناء السَّلام خلال الحرب الباردة– الَّتي كانت كلُّها تهدف إلى معالجة "الأسباب الجذريَّة" للصِّراع- انضمَّ إليها الآن مبادئ من قبيل "الأمن البشريِّ" و "مسؤوليَّة الحماية" و "منع النِّزاعات" و "العدالة الانتقاليَّة" وهلمَّ جرًّا.

في جزء منه، أتى هذا الغيضُ من المفاهيم الغامضة أكثر من أيِّ وقت مضى نتيجةً لتحوُّل حقيقيٍّ في طبيعة الصِّراع، من القتال بين الدُّول إلى الاقتتال داخل الدَّولة، فمع تراجع لعبة شدِّ الحبل بين القوى العظمى، بدا أنَّ الأزمات راحت تندلع داخل المجتمعات ذاتها، مجتمعات راحت تعقيداتها الدَّاخليَّة تطفو على السَّطح، وراح الانفعال والفَوَرَان الفكريُّ يعكس غطرسة العصر، فالغرب، موقناً من أنَّه قد انتصر، رأى أنَّ بإمكانه الآن تطوير علْم كامل حول كيفيَّة إرساء سلام دائم والحثِّ على التَّغيير الدِّيمقراطيِّ، وهو ما يتجلَّى بأفضل صورة في المصطلح الجديد "علم الانتقال" الَّذي وُضع في التِّسعينات.

وضعت الحرب على الإرهاب نهايةً لعصر اللِّيبراليَّة الذَّهبيِّ هذا، وأعادت إدخال القوَّة التَّنظيميَّة للنِّزاع المسلَّح. من وجهة نظر صانعي السِّياسة الغربيِّين، قدَّمت هذه العودة إلى الحرب شيئاً من التَّنفيس، فبنهاية التِّسعينات، واجهت هذه المجموعة من المفاهيم الَّتي تشكِّل الأجندة اللِّيبراليَّة اختباراتٍ جديَّةً لواقعها، وألقت النِّزاعات الوحشيَّة في إفريقيا والجمهوريَّات السُّوفييتيَّة السَّابقة - الَّتي تخلَّلتها أعمال عنف وإبادة جماعيَّة كما في رواندا والبوسنة- بظلال من الشَّكِّ على جدوى نظام غربيٍّ قائم على الحقوق، وكذلك فعلت النَّتائج الفوضويَّة للتَّدخُّلات حسنةِ النيَّة في أماكن مثل الصُّومال، والواقعيَّة السِّياسيَّة البشعة للحصار المدمِّر الَّذي فُرض على العراق. 

أدَّى الصِّراع الجديد الَّذي بدأ في 11 أيلول/ سبتمبر إلى إحياء الانقسام الَّذي يضع الخير مقابل الشَّرِّ، فقد قدَّم تنظيم القاعدة نفسه بحنكة على أنَّه نقيض النِّظام اللِّيبراليِّ الَّذي تقوده الولايات المتَّحدة، ودعا إلى حرب لا حدود لها ضدَّ الغرب وجميع ملحقاته، علاوة على ذلك، قدَّمت الطَّبيعة المتقلِّبة للتَّهديد أرضيَّة خصبة لواضعي السِّياسات الغربيِّين ليعودوا إلى المفاهيم المتقلِّبة الَّتي ظهرت في العقود السَّابقة.

في موازاة ذلك، أدَّت العثرات والكبوات المُبكِّرة في الحرب على الإرهاب إلى توسيع نطاق اللُّجوء إلى المبادئ الرَّاسخة لعقيدة مكافحة التَّمرُّد، عقيدة أكثر ما تجلَّت في أفغانستان والعراق، لا سيَّما في شكل ما يسمَّى بـ "زيادة" عدد القوَّات الأمريكيَّة المنتشرة في المناطق المتمرِّدة، وعلى نحوٍ أدقَّ في أجزاء من جنوب الصَّحراء الكبرى في إفريقيا، حيث سعت توسعة الجهود "لدعم الاستقرار" إلى تقليص الحيِّز المُتاح للحركات الجهاديَّة المحلِّيَّة. باختصار، تطلَّبت المراوغة الَّتي تمتَّع بها العدوُّ الجديد للغرب طيفاً كاملاً من ردود الفعل المدنيَّة والعسكريَّة على حدٍّ سواء. 

تمثَّلت فائدة "مكافحة التَّطرُّف العنيف" و"منع التَّطرُّف العنيف" في أنَّها أعادت دمج هذا النَّهج الشَّامل في إطار مُوحَّد في ظاهره في حين أنَّها صَوَّرت الحرب على الإرهاب على أنَّها تهدف لحماية المدنيِّين، وهو ما أصبح أكثر أهميَّة في أواخر عام 2014 عندما أطلقت الولايات المتَّحدة والدُّول الغربيَّة الأخرى العنان لجولة جديدة ومدمِّرة للغاية من الحرب الجويَّة في سوريا والعراق في حين أغلقت حدودها بوجه اللَّاجئين. لقد خدمت المفاهيم الجديدة الغرض المألوف وهو تغليف الصِّراع المسلَّح بمصطلحات مقبولة أخلاقيًّا.

مكانك راوح

رغم كلِّ هذا التِّكرار، لم تحقِّق الفترة منذ عام 2001 سوى تقدُّمٍ ضئيل للغاية في اعتماد نهج متماسك ومُحكَم للمكافحة النَّاعمة للإرهاب، وقد جسَّدت الحالة الرَّاهنة لـ"منع التَّطرُّف العنيف" هذا الفشل، إذ ما يزال هذا المفهوم يعاني من سوء تعريف جوهريٍّ، وغياب أدلَّة تجريبيَّة بشأن ما يجدي نفعاً، واستعداد مقلق للاستمرار في اتِّباع سياسات لا تجدي نفعاً؛ وآثار خَبِيثة وماكِرة لا سيَّما على المستوى المحلِّيِّ في البلدان الَّتي أصبح فيها "منع التَّطرُّف العنيف" عاملاً منظِّماً ورئيساً في السِّياسة الغربيَّة.

تبدأ أوجه القصور في "منع التَّطرُّف العنيف" في اسم المفهوم عينه؛ فمن ناحية، ما يزال مصطلح "التَّطرُّف العنيف" الَّذي ظهر بوصفه مصطلحاً تقنيًّا فُضِّل على مفهوم "الإرهاب" المسيَّس بشدَّةٍ- غامضاً مثل سلفه لدرجة أنَّه يكاد يخلو من أيِّ معنى، وبذا هو عرضة لمجموعة من المعايير المزدوجة؛ ففي حين أُطلِق هذا المفهوم بالفعل، على سبيل المثال، على جماعات القوميِّين البيض في الولايات المتَّحدة، فإنَّ تطبيقه العالمي يركِّز على المسلمين السنَّة في الدَّرجة الأولى، وقد أشار مستشار يعمل في مجال "منع التَّطرُّف العنيف" في آسيا إلى غياب هذا المفهوم في البلدان الَّتي تتصارع مع الجماعات البوذيَّة المسلَّحة: "أنت لا تقوم بـ"مكافحة التَّطرُّف العنيف" في الدُّول الَّتي لا يوجد فيها مسلمون، إنَّ الفكرة عنصريَّة بشكلٍ صريح وعلنيٍّ". 

يبدو الإطار منفصلاً عمَّا قد يقلِّل من التَّطرُّف

كما يتَّضح ذلك في غياب أيِّ تمييز واضح بين مفهومي "مواجهة التَّطرُّف العنيف" و"منع التَّطرُّف العنيف"، هناك تمييز من حيث المبدأ بين البرامج الَّتي تهدف إلى معالجة الأسباب الجذريَّة للتَّطرُّف قبل أن يصبح الأفراد "متطرِّفين" من جهة، وبين التَّدخُّلات الَّتي تهدف إلى التَّصدِّي للتَّطرُّف بمجرَّد أنَّه ترسَّخ وتجذَّر من جهة أخرى، غير أنَّ أكثر ما يوضح هذا الخلل هو ما تفضِّله (اعتباطيًّا إلى حدٍّ كبير) المؤسَّسات الَّتي تقدِّم المنح في وقت ما، فعلى سبيل المثال، ركَّز صنَّاع السِّياسة الأمريكيُّون نقاشهم على "مواجهة التَّطرُّف العنيف" في المقام الأوَّل، في حين تبنَّت الأمم المتَّحدة مفهوم "منع التَّطرُّف العنيف"، وفي ذلك قال متخصِّص في مجال الحوكمة يقيم في واشنطن: "لا أعرف من يُطلق التَّسميات ولا ما هي هذه التَّسميات اليوم، فنحن نكتب المنح ونترك فراغاً مكان الاختصار، ثمَّ ننظر إلى ما يستخدمه مانح معيِّن من مفاهيم". 

 هذا الغموض إلى ما هو أبعد من التَّسمية، ويكاد يتخلَّل جميع الجوانب العمليَّة لإطار يبدو منفصلاً كلِّيًّا عن أيَّة أدلَّة ذات مغزى فيما يتَّصل بما قد يحدُّ من دوافع التَّطرُّف، فقد أُجري عدد محدود- وإن كان يتزايد- من البحوث التَّجريبيَّة القيِّمة، غير أنَّ كلَّ ما فعلته تقريباً هو تأكيد مدى اتِّساع فجوات المعرفة في هذا المجال، وفي ذلك علَّق خبير في "منع التَّطرُّف العنيف" يعمل في آسيا قائلاً:

"ترى أنَّه ليس باستطاعة أيِّ أحد أن يقول ما الشَّيء الَّذي يجدي نفعاً، وأحد أوضح الأمثلة على ذلك هي الرِّوايات المضادَّة، إذ سيقول النَّاس: لم نحصل على أيَّة نتائج، ولكن يجب علينا فعل المزيد، وإليكم بعض أفضل الممارسات استناداً إلى عدم حصولنا على نتائج. لماذا نواصل اتِّباع أنموذج لم تُثبَت جدواه بالتَّجريب، وهو ما يجعل الأمور أكثر سوءاً؟". 

يبدو على نحو متزايد أنَّ البرامج البرَّاقة والمصطلحات التِّكنوقراطيَّة تطغى على أيِّ تأثير واضح. في أحد الأمثلة، نشر برنامج موَّله الاتِّحاد الأوروبيُّ بعدَّة ملايين من الدُّولارات وحمل اسم "مركز التَّميُّز في شبكة الوعي بالرَّاديكاليَّة" "أهمَّ النَّتائج" استناداً إلى مناقشات مع ثلاث وخمسين منظَّمة شريكة وترجمها إلى إحدى وعشرين لغة، ولُخِّصت إلى نقاط تهدف إلى فهم الجمهور المستهدف وقنوات تواصله و "إيجاد طريقة للتَّفاعل" معه. 

ولذا تبدو خيبة الأمل كبيرة على صنَّاع السِّياسات والعاملين في المنظَّمات غير الحكوميَّة على حدٍّ سواء. في عام 2017 أوضحت موظَّفة في وزارة الخارجيَّة أنَّها خرجت تدريجياً من دائرة "منع التَّطرُّف العنيف"، وقالت: "لقد حضرتُ كثيراً من هذه الفعاليَّات في السَّنوات الخمس الماضية، وقد كانت كلُّها الشَّيء نفسه مراراً وتكراراً، لم أعد أستطيع فعل ذلك بعد الآن". وبالمثل، في مؤتمر كبير عقد في العالم العربيِّ لمناقشة منع التَّطرُّف العنيف واستمرَّ يومين، ظهر إجماع واضح حول أوجه قصوره وتبعاته أكثر من الإجماع على أهمِّيَّته ووعوده، وقد عبَّرت مديرة منظَّمة أمريكيَّة غير حكوميَّة عن خيبتها قائلة: "الجميع مُرهَق اليوم، ونرى أنَّه لم يُجدِ أيُّ شيء نفعاً، وأنَّ كلَّ شيء أسوأ ممَّا كان عليه، ولسنا متأكِّدين ممَّا عسانا نفعل. هل يجب علينا معاودة التَّركيز على بناء السَّلام؟ أم تمكين المرأة؟ إنَّنا نعاني من هذا الشَّيء".

هزيمة الغاية

بالإضافة إلى هذا الشُّعور العامِّ بأنَّ "منع التَّطرُّف العنيف" قد أخذ الكثير من الضَّجَّة والجلبة مقابل تحقيق الحدِّ الأدنى من التَّقدُّم، هناك مؤشِّرات على أنَّ توسُّع هذا الإطار قد يجعل الأمور أسوأ في المواضع الَّتي يهدف إلى تحسينها، ففي أحد المستويات، يقدِّم "منع التَّطرُّف العنيف" ستاراً مناسباً للأنظمة الاستبداديَّة الَّتي يمثِّل سلوكها بلا لبسٍ، جزءاً من المشكلة، فبينما لا تزال الأدلَّة ضعيفة فيما يتَّصل بدوافع التَّطرُّف، يُفهم على نطاق واسع أنَّ الحكم السيِّئ- بما في ذلك انتهاكات حقوق الإنسان والقمع الشَّديد للفضاء العامِّ والفساد والاقتصاد القائم على السَّلب والنَّهب وما إلى ذلك - في صميم هذه المسألة. إزاء هذه الظُّروف، تتشبَّث الحكومات الرَّجعيَّة بالمنطق الغامض لمفهوم "منع التَّطرُّف العنيف" غطاءً لسلوكها الأكثر خبثاً وضرراً.

في أحد الأمثلة على ذلك، أطلقت الحكومة السُّعوديَّة في أيَّار/ مايو من عام 2017 مركزها العالميَّ لمكافحة الفكر المتطرِّف- وهو مركز عصريٌّ اشتُهر بالكرة المتوهِّجة الَّتي غدت رمزاً له- لكنَّها في الوقت نفسه تمضي قدماً في حرب في اليمن، حربٍ لا يُرجَّح أنَّها ستسهم في تخفيف "التَّطرُّف العنيف" بالنَّظر إلى التَّدمير الشَّامل والمجاعة بفعل الحصار الَّذي سبَّبته. كان من بين من حضر الافتتاحَ الضَّخمَ الرَّئيسُ المصريُّ عبد الفتَّاح السيسي الَّذي قدَّم نظامُه نفسَه شريكاً في الحرب على الإرهاب بينما راح يصعِّد القمع المحلِّيَّ إلى مدى ذي نتائجَ عكسيَّةٍ. وبالمثل استضافت إيران مؤتمراً حول مواجهة العنف والتَّطرُّف في أواخر عام 2014 في حين ترسل ميليشياتها لمساندة النِّظام السُّوريِّ ومساعدته على مواصلة قمعه غير المحدود.

لقد تشبَّثت الحكومات بهذا الغطاء لسلوكها الضَّارِّ

وبالمثل، لاحظ خبير في آسيا التَّناقض بين تبنِّي إسلام آباد الحارِّ لخطاب "منع التَّطرُّف العنيف" من ناحية، وموقفها العامِّ الَّذي يعزِّز التَّشدُّد من ناحية أخرى، وفي ذلك قال: "إنَّ الرَّافعة الأساسيَّة في السِّياسة الخارجيَّة الباكستانيَّة هي تصدير الإرهاب؛ لذا لستُ متأكِّداً من كيفيَّة تحقيق هذه القفزة المنطقيَّة". حتَّى الطَّبقة السِّياسيَّة المستجيبة ظاهريًّا في بلد مثل لبنان تبنَّت موقفاً عدائيًّا تجاه أكثر من مليون لاجئ سوريٍّ في غاية الضَّعف، وأخذت البلادَ إلى حافة أزمة ماليَّة، وسمحت بهدوء لقطاع السُّجون الَّذي يغصُّ بالانتهاكات والمتدهور والمكتظِّ أن يستفحل في حين تبنَّت "الاستراتيجيَّة الوطنيَّة لمنع التَّطرُّف العنيف".

تتعلَّق مجموعة ثانية من المخاوف بكيفيَّة تكشُّف "منع التَّطرُّف العنيف "على المستوى الجزئيِّ في توزيع المساعدات الإنسانيَّة والإنمائيَّة من قبل المنظَّمات غير الحكوميَّة المحلِّيَّة والدَّوليَّة؛ ففي نيجيريا مثلاً، أشار أحد كبار المانحين الإقليميِّين إلى "تكريس جُلِّ السِّياسات والأموال لمحاربة الإرهاب في الشَّمال، ما سمح للعديد من الصِّراعات الأخرى في أنحاء البلاد الأخرى بالتَّفاقم والتَّوسُّع". مع تزايد تركيز الاهتمام الغربيِّ على موضوع الأمن، وَجدت المنظَّمات المحلِّيَّة نفسها مُجبرة فعليًّا على تكييف عملها مع هذا التَّوجُّه، بما في ذلك تحويل الموارد بعيداً عن النقاط المحوريَّة الموضوعيَّة الأخرى الَّتي أثبتت هذه المنظَّمات خبرتها فيها.

تتجلَّى هذه الدِّيناميَّة بوضوح بين كلٍّ من المانحين والشُّركاء من المنظَّمات غير الحكوميَّة الَّتي غالباً ما يعتمد تمويلها على التَّوافق مع أولويات التَّمويل الدَّوليَّة، وفي ذلك يرى أحد العاملين في منظَّمة غير حكوميَّة في الأردن أنَّ منظَّمته - الَّتي ركَّزت مهمَّتها الأصليَّة على المشاركة والانخراط المدنيِّ والسِّياسة العامَّة - أعادت تكييف نفسِها إلى حدٍّ كبير، فيقول: 

"يبدو أنَّ قيادتنا قد أقنعت نفسها ببرامج "منع التَّطرُّف العنيف"، ولكنِّي أكاد أجزم أنَّه لو لم يكن هناك قيود على التَّمويل لَما قمنا بهذا الأمر. بصراحة، تحوَّلَ كلُّ عملنا تقريباً في هذا الاتِّجاه، وفي أعماقنا نشعر بالإحباط من هذا التَّحوُّل عن مهمَّتنا الأساسيَّة". 

يقول خبير في "منع التَّطرُّف العنيف" متذمِّراً: "جلس شريكي مؤخَّراً مع [مانح غربيٍّ] لمناقشة مبادرة تتعلَّق بحقوق المثليِّين في آسيا، وقال الرَّجل: "إن تضع عبارة "التَّطرُّف العنيف" في هذا، فستجعل وظيفتي أسهل بكثير. قد يبدو ذلك نكتة، لكنَّها ليست كذلك"، وقد ردَّد مسؤول حكوميٌّ لبنانيٌّ هذا الأمر علناً في فعالية رفيعة المستوى أقيمت لإطلاق استراتيجيَّة بيروت الخاصَّة بـ"منع التَّطرُّف العنيف" بقوله: "لا يعني "منع التَّطرُّف العنيف" لي شيئاً على الإطلاق، إنَّها عبارة جوفاء، لكنَّني أعلم أنَّها تدرُّ الكثير من المال، لذلك لا بأس بها".

يرتبط تحوُّلٌ موازٍ ارتباطاً وثيقاً بالدَّرجة الَّتي يحابي بها هذا التَّوجُّهُ الفاعلين الأكثر براعة في التَّحدُّث بلغة الوكالات المانحة بصرف النَّظر عمَّا إذا كان لديهم أكثر البرامج صلة، ويطغى هذا التَّوتُّر على عدد من التَّدخُّلات التَّنمويَّة، غير أنَّ ملامح "منع التَّطرُّف العنيف" غير المثبَتة تجعل الإطار أرضاً خصبة للتملُّق للمانحين. في مؤتمر حول "منع التَّطرُّف العنيف" عُقد في أوروبا، قال أحد المشاركين للمانحين: "إن كان شريككم المحلِّيُّ يفهم ما يعنيه "منع التَّطرُّف العنيف"، فقد لا يكون شريكاً محلِّيًّا جيِّداً، بل مجرَّد منظَّمة أخرى تعرف كيف تحصل على المال على حساب أجندتها"

ينتهي المطاف بقطاع المساعدات بفعل خلاف ما يدَّعي أنَّه يصبو إليه

إدراكاً لهذا التَّوتُّر، أوضح رئيس منظَّمة سوريَّة غير حكوميَّة عريقة أنَّ منظَّمته، بالرَّغم من أنَّها تتجنَّب مثل هذا التَّمويل في الغالب، تتولَّى أحياناً تنفيذ مشاريع تحمل اسم "منع التَّطرُّف العنيف" عندما تتناسب مع النقاط المحوريَّة للبرامج الأخرى مثل الدَّعم النَّفسيِّ والاجتماعيِّ، حتى هذا الأمر أثار انتقادات من نظيراتها من المنظَّمات وذلك لاستعدادها للانخراط في برامج "منع التَّطرُّف العنيف" أساساً. وبعبارة أخرى، ينتهي الأمر بـ"منع التَّطرُّف العنيف"- كمثال متطرِّف جدًّا على صناعة تعجُّ بالمصطلحات الغامضة- في فعل خلاف ما يدَّعي قطاع المساعدات والتَّنمية أنَّه يصبو إليه، ألا وهو تمكين اللَّاعبين المحلِّيِّين تمكيناً مؤثِّراً ومستداماً وقائماً على الأدلَّة.

ولذا تساورُ بعضَ المنظَّمات الَّتي يمكنها التَّكيُّف مع أجندة "منع التَّطرُّف العنيف" هواجس كبيرة من القيام بهذا الأمر؛ لأنَّها ترى فيها أجندة غير فعَّالة عادة، أو مفهوماً يعمل على تشويه المجتمعات الَّتي تهدف إلى مساعدتها أو "جعل مسألة الأمن أولويَّة" في هذه المجتمعات، أو كليهما. في الحقيقة يعني التَّوسُّع في المكافحة النَّاعمة للإرهاب أنَّ حصول مجتمع ما على تمويل من أجل التَّنمية يعتمد على الدَّرجة الَّتي تَعدُّ بها الدُّول المانحة ذلك المجتمع مصدراً محتملاً للتَّطرُّف العنيف، وليس على المؤشِّرات التَّقليديَّة لحاجة هذا المجتمع للمساعدة. لقد جرى التَّخلِّي عن مجموعة من الأهداف الأخرى كلِّيًّا، أو أعيدت صياغتها كأولويات ثانويَّة فقط إلى المدى أو الدَّرجة الَّتي قد تمنع عندها الإرهاب، كحقوق الإنسان والدِّيمقراطيَّة والحكم الرَّشيد وتمكين الشَّباب والنِّساء والتَّنمية الاقتصاديَّة وحريَّة التَّعبير، وغيرها من العناصر الأساسيَّة في الأجندة اللِّيبراليَّة الَّتي دامت لعقود من الزَّمن، والَّتي جُنِّدت لخدمة الحرب على الإرهاب، ما أدَّى إلى تآكل الافتراض القائل بأنَّ لأهداف كهذه قيمة في حدِّ ذاتها، وزاد الشُّبهة حولها في عيون المستفيدين المزعومين على أرض الواقع.

إنَّ ذلك أمر غير منطقيٍّ، فحتَّى التَّقارير الَّتي تموِّلها صناعة "منع التَّطرُّف العنيف" تشير إلى أنَّ "التَّطرُّف العنيف" غالباً ما يُختصر إلى مسائل بديهيَّة وشديدة الوضوح، أي السِّياسات القمعيَّة والحكم السَّيِّئ في "العالم الجنوبيِّ" والبطالة الجزئيَّة في البلدان الأكثر ثراءً، ومن الجدير بالملاحظة إذاً كم أصبح صعباً جَعلُ الحكومات الغربيَّة تعترف علناً بالارتباط المثبَت بالتَّجربة والقويِّ بين انتهاكات حقوق الإنسان والحكم السَّيِّئ والاستبداد من جهة، والتَّطرُّف من جهة أخرى، وأن تتصرَّف حيال ذلك. يبدو "منع التَّطرُّف العنيف" وسيلةً لعدم معالجة المشاكل الأساسيَّة؛ لأنَّ ذلك من شأنه أن يزعزع الوضع الرَّاهن.

ما "يجدي نفعاً" بالفعل، بطرق سطحيَّة، هو الإجراءات العسكريَّة الَّتي تُظهر فعالية أكثر بكثير- على المدى القصير- من أيَّة إجراءات لـ"منع التَّطرُّف العنيف". ببساطة، هُزم تنظيم الدَّولة الإسلاميَّة في الوقت الحاليِّ من خلال القصف العشوائيِّ إلى حدٍّ كبير، ما تسبَّب في تدمير واسع النِّطاق للبنية التَّحتيَّة وأوقع عدداً كبيراً من الضَّحايا المدنيِّين. في هذه العمليَّة، لم يُبذَل أيُّ جهد جادٍّ لمعالجة أيٍّ من "الأسباب الجذريَّة" لهذه الظَّاهرة، من قبيل الإهمال الحكوميِّ والتَّمثيل المحلِّيِّ والوطنيِّ الضَّعيف والانتهاكات واسعة النِّطاق على أيدي الأجهزة الأمنيَّة وزحف الفصائل المسلَّحة، وما إلى ذلك.

كما تزرع تحصد 

تتعلَّق مجموعة نهائيَّة من المخاوف بالطُّرق الَّتي يتردَّد فيها صدى "منع التَّطرُّف العنيف" داخل المجتمعات الغربيَّة نفسها، أو على نحو أدقَّ، الموقف المفرط في التَّركيز على الأمن الَّذي يمثِّله. للوهلة الأولى، لا يوجد ارتباط واضح بين برامج "منع التَّطرُّف العنيف" الرَّعناء والعبثيَّة من ناحية، وتنامي السِّياسات القوميَّة البغيضة الَّتي راحت تنتشر في العالم الغربيِّ من ناحية أخرى، غير أنَّ كليهما جزء لا يتجزَّأ من تحوُّل جذريٍّ في علاقة الغرب مع "الآخر" الَّذي لا يُنظَر إليه إلَّا من خلال التَّهديد المحتمل الَّذي يمثِّله.

إنَّ في صميم هذا التَّحوُّل تخلِّياً شبهَ كليٍّ عن أيَّة قيم إيجابيَّة في سياسة الغرب الخارجيَّة، فلطالما غصَّ النِّظام الَّذي قادته أمريكا في القرن العشرين بالتَّناقضات الَّتي وُجدت جنباً إلى جنب مع جيوب من التَّقدُّم الملموس المرتبط بالقيم اللِّيبراليَّة الَّتي يجري التَّبجُّح بها، وقد شهدت الفترة الَّتي تلت الحرب العالميَّة الثَّانية تعزيزاً للمعايير العالميَّة بشأن مسائل عدَّة؛ كاستخدام الأسلحة الكيميائيَّة، والحقِّ في اللُّجوء والتَّحرُّر من التَّعذيب. آتى تعزيز حقوق الإنسان في أواخر القرن العشرين أُكله في بعض الأماكن رغم الغموض الذي لفَّه. في هذه الأثناء، لم تكن صناعة الحرب الغربية نظيفة أبداً، لكنَّها مع ذلك أدخلت تدريجيًّا معايير معيَّنة، قسمٌ منها طَموحٌ وقسمٌ عمليٌّ. بحلول التِّسعينات، تُرجم الادِّعاء بتوجيه ضربات "جراحيَّة"، رغم المبالغة فيه، إلى اهتمامٍ أكبرَ بسلامة المدنيِّين. وبعبارة أخرى، كان التَّرويج الفُصاميُّ للِّيبيراليَّة الغربيَّة سيِّئاً للغاية حقًّا، ولكنَّه حقَّق أيضاً بعض النَّفع. 

حتَّى التَّظاهر بالمعايير الأخلاقيَّة يستعصي على السِّياسة الخارجيَّة الغربيَّة

يصعبُ اليوم تفسير أو شرح التَّظاهر الصِّحِّيِّ بامتلاك معايير أخلاقيَّة في السِّياسة الخارجيَّة الغربيَّة، فبالرَّغم من رفعه شعار ضبط النَّفس، لم يُشرف الرَّئيس الأمريكيُّ باراك أوباما على التَّوسُّع الكبير للحرب الَّتي لا حدود لها بواسطة الطَّائرات الفتَّاكة بدون طيَّار فحسب، بل عاود أيضاً إطلاق الحملات الجويَّة الشَّاملة الَّتي دمَّرت مدناً بأكملها في سوريا والعراق. في هذه الأثناء، راحت الولايات المتَّحدة وحلفاؤها يكذبون بلا خجل بشأن الخسائر في صفوف المدنيِّين، ومن ثمَّ حَرموا الضَّحايا من أبسط تعويض، وأغلقوا حدودهم بوجه اللَّاجئين، وتواطؤوا على إعادة اللَّاجئين قسراً إلى مناطق الحرب؛ وراحوا يروِّجون روايات شبه شوفينيَّة ومسمومة للغاية حول "العدوِّ". بعبارة أخرى، لم تتوقَّف المجتمعات الغربيَّة عن ممارسة ضغوط حقيقيَّة على الأنظمة الاستبداديَّة في الخارج فحسب، بل راحت تحاكي بعضاً من أسوأ ممارسات هذه الأنظمة.

"منع التَّطرُّف العنيف" هو تمثيلٌ وترشيد لهذا التَّوجُّه المنحدر للأسفل. فمن ناحية، تُستخدم فيه مجموعة متنوِّعة من أدوات السِّياسة الخارجيَّة المدنيَّة في خدمة الحرب على الإرهاب، ومن ناحية أخرى، إنَّ تعقيد "منع التَّطرُّف العنيف" وهالة الأخلاق اللِّيبراليَّة المحيطة به يساعد في إخفاء واقع مزعج. لقد اختُزلت السِّياسة الخارجيَّة للدُّول الغربيَّة إلى جهد غير متماسك وشبه هستيريٍّ لحماية حدودها من تهديدٍ فشلت في تعريفه تعريفاً صحيحاً.

يُنظر إلى هذا التَّهديد على أنَّه يمتدُّ عبر مجموعات واسعة من النَّاس في الخارج والدَّاخل، ما يخلق جوًّا يذكِّر بـ"المكارثيَّة" (توجيه الاتِّهامات بلا أدلَّة)؛ وإن كان ذلك بوجود طبقات كثيفة من التَّحيُّز العرقيِّ والدِّينيِّ. تتسرَّب هذه الرُّوح، لا محالة، إلى المجتمعات الغربيَّة والأنظمة السِّياسيَّة، ما يؤجِّج في كثير من الأحيان عودة ظهور مجموعات الكراهية والأحزاب الرَّاديكاليَّة والعنيفة غالباً، الَّتي تدفع الخطاب العامَّ إلى أدنى مستويات عدم التَّسامح، لذا تكمن مشكلة "منع التَّطرُّف العنيف" في أسسها الشَّاملة والعسكريَّة الغامضة والمذعورة، أسسٍ تَظهر آثارها على الجبهة الدَّاخليَّة في شكل مراقبة محلِّيَّة آخذة في التَّوسُّع (خاصَّة ضدَّ مجتمعات الأقلِّيَّات) وتشريعات مدفوعة بمسألة الأمن، والمعاملة المُهينة لطالبي اللُّجوء وظهور أشكال مختلفة من كره الأجانب المَرَضيِّ. هذه التَّوجُّهات، الَّتي يدعمها علناً قسم عنصريٌّ من وسائل الإعلام، مدمِّرةٌ للغاية: تماماً مثلما تهدِّد الدَّوافع القوميَّة البغيضة والمشاعر المناهضة للهجرة بتقويض الاتِّحاد الأوروبيِّ، يمزِّق صعود دونالد ترامب– وروح العصر الخاصَّة بالقوميِّين البيض الَّتي منحها ترامب متنفَّساً- النَّسيجَ الأخلاقيَّ للمجتمع الأمريكيِّ. 

ولا بدَّ من التَّذكير هنا أنَّ هذه الدِّيناميَّة لم تظهر فجأة أو من فراغ، بل تطوَّرت وتبلورت على مدى العقد ونصف العقد الماضيَين. في اعتراف مهم، كتب مسؤولان بارزان في إدارة أوباما فور تركهما منصبَيهما مقالَ رأيٍ يشير إلى أنَّ التَّركيز المُفرط على سياسات مكافحة الإرهاب- الَّتي ساعدا في رسمها وتنفيذها- ربَّما شكَّل المناخ العاطفيَّ لفوز ترامب بالانتخابات. وعلى المنوال نفسه، يكاد المسار الحاليُّ للمجتمعات الغربيَّة يضمن أنَّنا سنستمرُّ في التَّوجُّه نحو مستويات جديدة من العزلة والتَّركيز على الأمن في الدَّاخل والخارج على حدٍّ سواء.

عندما يفشل كلُّ شيء آخر
ثق بالفطرة السَّليمة

إنَّ حتميَّة هذا الانجراف- ومن ثمَّ الأهمِّيَّة الدَّائمة لـ"منع التَّطرُّف العنيف" أو شيء من هذا القبيل- تخلق حوافز لأولئك المعنيِّين، فقد ركب كثيرون منهم الموجة، وراحوا يستفيدون من الأموال المتاحة للمشاريع النَّاعمة لمكافحة الإرهاب. نأى آخرون بأنفسهم عمَّا يعدُّونه بدعة بغيضة وغير متماسكة للغاية. بين هذين النَّقيضين، يوجد معسكر أكثر غموضاً يتألَّف من صانعي السِّياسات والمزاولين الَّذين يقبلون على مضض أنَّ مفهوم "منع التَّطرُّف العنيف" وُجِد ليبقى، ومن ثمَّ يجب التَّفاوض عليه لزيادة فوائده وكبح جماح أكثر ممارساته سوءاً.

بالنِّسبة إلى أولئك الَّذين يكافحون لدفع "منع التَّطرُّف العنيف" في اتِّجاهات بنَّاءة أكثر، يجب أن تكون نقطة البداية هي العودة إلى المنطق السَّليم، وهو ما يتطلَّب، قبل كلِّ شيء، اتِّباع نهج أكثر تواضعاً وسياقيَّة، نهج يمتنع عن استحضار مفردات جديدة ويركِّز بدلاً من ذلك على الوسائل الحاليَّة للاستجابة لعوامل العنف الَّتي ينبغي تعريفها بوضوح. إنَّ توفير الخدمات الأساسيَّة، والحماية من الظُّلم، وتوفير فرص التَّقدُّم الاجتماعيِّ، والتَّمثيل السِّياسيِّ كلُّها احتياجاتٌ ملحَّة وواضحة لكن يجري تجاهلها في كلِّ بلد أصبح فيه "منع التَّطرُّف العنيف" قوَّةً تنظيميَّة. 

سوف يدور منطق العودة إلى الأساسيَّات هذا حول مجموعة من الأسئلة الواضحة نسبيًّاً: كيف تساهم الحوكمة الرَّديئة في تغذية التَّطرُّف؟ ما الَّذي تخبرنا به بالضَّبط الأشكالُ المختلفة للتَّشدُّد عن إخفاقات دولة معيَّنة؟ ما هي التَّدابير الواقعيَّة الَّتي قد تعالج هذه الإخفاقات، ولو جزئيًّا، ومن ثمَّ تقلِّل من إمكانيَّة الجنوح نحو التَّطرُّف؟ لمَ التَّدابير الأمنيَّة والعسكريَّة غير كافية لمعالجة الأسباب الجذريَّة للتَّطرُّف، وكيف يمكن للأدوات المدنيَّة، على وجه التَّحديد، أنْ تسدَّ الثَّغرات؟ ببساطة، هناك حاجة ماسَّة لبحث مدفوعٍ بتحليل نزيهٍ ومعمَّق بدلاً من الحاجة الرَّجعيَّة لتبرير قرارات التَّمويل والسِّياسة. لقد بدأ مثل هذا البحث في الظُّهور بالفعل- ويقوده بضعة لاعبين من ذوي الفكر التَّقدُّميِّ مثل فيلق السَّلام (Mercy Corps) و International Alert- لكنَّه في الوقت الحاليِّ يظلُّ استثناءً.

شكراً لك! إنَّ مشاركتك النَّشطة - ببساطة عن طريق استثمار وقتك في عملنا ومشاركته مع مَنْ هم حولك - هي مكافأة كبيرة لنا. يسافر هذا المنشور بقدر ما تحمله والجمهور؛ لذلك نحن ممتنُّون للغاية.
وغنيٌّ عن القولِ أنَّ هذا التَّحوُّل سهلٌ قوله لكنَّ الأصعب منه تطبيقه. يُدفع "منع التَّطرُّف العنيف"– مثله مثل الحرب الأوسع على الإرهاب- إلى الأمام بواسطة تيَّارات قويَّة، بما في ذلك الجمود البيروقراطيِّ المُطلَق، والمصالح الماليَّة الثَّابتة في صناعة آخذةٍ في الاتِّساع، وإحجام جميع الدُّول عن مناقشة دورها في تغذية الإرهاب، وربَّما الأهمُّ من ذلك، الهيمنة الدَّائمة للإرهاب على الوعي السِّياسيِّ الغربيِّ. غير أنَّ قوَّة هذا المسار هي سبب إضافيٌّ لإيجاد سبلٍ للتَّصدِّي للجوانب الأكثر ضرراً لـ"منع التَّطرُّف العنيف" مع التَّركيز على التَّقدُّم الإيجابيِّ الَّذي يمكن إنقاذه من هذا المشهد القاتم. في غضون ذلك، قد لا يكون السُّؤال الأهمُّ على الإطلاق هو ما إذا كان الغرب يفوز أو يخسر في حربه ضدَّ الإرهاب، ولكنْ إلى أيِّ مدى يخسر نفسه في هذه العمليَّة.

5 شباط/ فبراير 2018

بيتر هارلينغ: مدير سينابس. أليكس سيمون: مدير برنامج سوريا في سينابس. بن شونفيلد: مستشار مستقل.
قام بالترجمة للعربية حسان حساني

تم استخدام الصور بموجب رخصة المشاع الابداعي من:
Colt Police Positive; RA expeditionary rifle; IDF HTR 2000 rifle; Garand rifle; THOR XM408 rifle; Dragunov; M16 A4 series; Browning; Serving spoon by Wikipedia; bullet holes by Free PMGimg

The city that didn't know where to start

Tripoli’s revolving stalemate


حين لزمنا بيوتنا


The West’s war on itself

The hard truths of soft counterterrorism


اشترك لتلقي منشورات سينابس. ننشر فقط ما يدعونا للفخر

مطلوب *